تمغربيت : رحاب الغرباوي
الثريا الكبرى هذه التحفة الفنية التي تجمع بين البراعة المعمارية والإبداع الحرفي تعد من أضخم وأرقى الثريات النحاسية في العالم الإسلامي صنعت بأمر السلطان المريني أبو يعقوب يوسف عام 694 هـ (1294م)، ووضعت في قلب مسجد عظيم أنشئ في القرن الثاني عشر الميلادي وقد تم تدشين الثريا رسميا في ليلة المولد النبوي، يوم 12 ربيع الأول 694 هـ (30 يناير 1295م)، بحضور السلطان نفسه، وسط احتفال كبير أضيئت فيه جميع مصابيحها مما أضفى على المكان جوا روحانيا وفنيا متميزا.
تزن الثريا الكبرى حوالي 32 قنطارًا (3200 كغ) وهي مصنوعة بالكامل من النحاس، وتضم 514 مصباحا زيتيا تم لاحقا استبدالها بمصابيح كهربائية، بما يحافظ على رونقها ويجعلها صالحة للإضاءة الحديثة. تصميمها يعكس أعلى مستويات الإبداع في الفن المغربي التقليدي، حيث تتزين النقوش والزخارف الهندسية بآيات قرآنية من سورة النور وسورة البقرة، إضافة إلى قصيدة شعرية بعنوان “أنا الثريا”، نقشت على ستة عشر جناحا من قبتها وتتألف من ثمانية أبيات، لتوضح مدى اهتمام الفنانين المرينيين بالجمع بين النص القرآني والفن الشعري والزخرفي.
وتتواجد هذه الثريا المذهلة في الجامع الكبير بمدينة تازة، لتصبح أحد أبرز معالم المسجد وأكثر ما يلفت الأنظار من الداخل فهي لا تمثل مجرد قطعة زخرفية، بل رمزا لهوية المكان وروحانيته، حتى أن القصيدة المنقوشة عليها صارت بمثابة نشيد يعكس قيم الفن والثقافة في تلك الحقبة الإضاءة الرمزية للمصابيح الزيتية كانت تضفي أجواء روحانية وتعكس فلسفة الجمال المرتبط بالقيم الروحية في العمارة الإسلامية، مما يجعلها تحفة متكاملة بين الجمال الفني والبعد الديني.
عندما تضاء، تتناثر أشعة المصابيح على جدران الجامع وأعمدته، فترسم ظلالا وزخارف متناثرة، وكأن المكان يتحول إلى لوحة نورانية عظيمة يصف بعض المؤرخين مشهد تدشينها في ليلة المولد النبوي سنة 694 هـ بأنه كان أشبه بليلة سماوية، حيث اجتمع أهل تازة حول المسجد ورأوا بأعينهم كيف غمرت أنوار الثريا المكان، فبدت كنجمة هبطت من السماء لتستقر في قلب الجامع.
وظلت هذه الثريا عبر القرون رمزا لمدينة تازة، تعكس مكانتها كهمزة وصل بين شرق المغرب وغربه، وكأنها كانت هي الأخرى جسرا بين الماضي والحاضر فالزائر اليوم يقف أمامها بنفس الانبهار الذي شعر به أسلافه قبل سبعة قرون، يتأمل في ثقلها وضخامتها، وفي الوقت نفسه في رقتها الفنية ودقة تفاصيلها إنها شاهد حي على عبقرية الحرفيين المغاربة الذين استطاعوا أن يحولوا النحاس البارد إلى قصيدة نور وبهاء.
ورغم أن الجامع الكبير بتازة مغلق حاليا في وجه الزوار بسبب أشغال الترميم والإصلاح، فإن الثريا الكبرى تظل في مكانها شاهدة على قرون من التاريخ، تنتظر لحظة عودتها إلى التألق حين يفتح المسجد من جديد. ومع كل عملية ترميم، يتأكد أن الحفاظ على هذه التحفة ليس مجرد صيانة لبناء قديم، بل هو حفظ لذاكرة جماعية ولجزء من الهوية المغربية، التي لا تزال قادرة على إبهار العالم بروائعها الفنية والمعمارية.