تمغربيت : فتيحة شاطر
منذ هجمات السابع من أكتوبر، أعلنت تركيا قطع العلاقات مع إسرائيل، مؤكدة أن لا طائرات إسرائيلية ستمر في أجوائها ولا سفن في موانئها. تصريحات قوية صدرت عن الرئيس أردوغان وصف خلالها نتنياهو وإسرائيل بأشد العبارات، وذهب إلى حد الحديث عن إبادة نازية وهتلر جديد. هذه الخطابات لم تقتصر على تصريحات إعلامية، بل كانت تصدح من أعلى المنابر التركية، بهدف التأكيد على الموقف التركي تجاه القضية الفلسطينية وإظهار التضامن الكامل مع الشعب الفلسطيني في مواجهة التصعيد الإسرائيلي.
لكن الحقيقة العملية على الأرض تتناقض مع هذا الخطاب العلني. فعلى الرغم من كل التصريحات القوية، استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أنقرة وتل أبيب بوتيرة كبيرة. ففي عام 2023، بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل نحو سبعة مليارات دولار، وهو رقم يعكس عمق الروابط الاقتصادية بين الطرفين. وفي عام 2024، بينما كانت تركيا تصب غضبها الإعلامي على إسرائيل، واصلت البطائع التركية شق طريقها إلى الموانئ الإسرائيلية، مسجلة صادرات بقيمة ثلاثة مليارات دولار، ما وضع تركيا بين كبار الموردين لإسرائيل. أما في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، فوفق تقارير دولية، تجاوزت الصادرات التركية إلى إسرائيل 390 مليون دولار، رغم النفي الرسمي من قبل أنقرة.
هذه الازدواجية تكشف عن سياسة متعمدة من تركيا، تقوم على مبدأ مزدوج: من جهة، خطاب قوي ومثار على المستوى الإعلامي والسياسي يظهر تركيا كحامية للقضية الفلسطينية، ومن جهة أخرى، الحفاظ على مصالح اقتصادية وتجارية هامة مع إسرائيل. النتيجة هي أن تركيا تحافظ على صورة دولة داعمة للفلسطينيين أمام الرأي العام، بينما تستمر في تسيير مصالحها العملية خلف الكواليس.
المسألة الفلسطينية هنا لا تُستغل فقط على المستوى الإعلامي، بل تُوظف كأداة سياسية تتيح لأنقرة تعزيز نفوذها الإقليمي. كل تصريح قوي ضد إسرائيل يساهم في تعزيز الصورة التركية كقوة مؤثرة على الساحة العربية والإسلامية، ويمنحها دورًا في قيادة حملات التضامن مع الفلسطينيين. لكن في الوقت نفسه، تُظهر البيانات الاقتصادية أن المصالح العملية غالبًا ما تتجاوز المواقف الإعلامية، ما يعكس ازدواجية متعمدة في السياسة التركية.
هذه الممارسة لها تأثيرات واضحة على المستوى الإقليمي والدولي. الحلفاء والشركاء الدوليون يجدون صعوبة في قراءة مواقف تركيا بدقة، فالخطاب الرسمي يتناقض مع الواقع العملي، ويجعل من الصعب التنبؤ بالخطوات القادمة لأنقرة. كل تصريح سياسي أو إعلامي يحتاج إلى مراقبة دقيقة مقابل أرقام التجارة والصفقات الاقتصادية لتحديد اتجاه السياسة التركية الفعلي.
على المدى الطويل، تكشف هذه الاستراتيجية التركية عن تحديات كبيرة. فهي قد تقلل من مصداقية تركيا أمام الحلفاء العرب والدوليين، وتجعل الثقة في خطابها الرسمي محل شك. فالمواطنون في العالم العربي يشاهدون تركيا تتحدث عن حماية الفلسطينيين، بينما تتعامل تجاريًا مع الطرف ذاته الذي تتهمه بارتكاب انتهاكات ضد الفلسطينيين.
العلاقة بين تركيا وإسرائيل، خاصة في ظل الأزمة الفلسطينية، تمثل نموذجًا حيًا على ازدواجية المواقف: تركيا تحافظ على خطاب قوي يدعم الفلسطينيين على المستوى الإعلامي والسياسي، لكنها في الوقت نفسه تضمن مصالحها الاقتصادية مع إسرائيل. هذه الازدواجية تجعل أنقرة لاعبًا معقدًا على الساحة الإقليمية، حيث كل تصريح أو خطوة عملية يجب أن يُفهم ضمن شبكة متشابكة من المصالح والخطاب السياسي والتوازنات الإقليمية