تمغربيت :تراثنا فخرنا .. مع الحسن شلال
في مشهد يعكس الفارق الحضاري بين الدول التي تحافظ على تراثها وتطوره (المملكة الشريفة نموذجا) وتلك التي تعاني من فراغ ثقافي وحضاري وتراثي (لانجيري الفرنسية نموذجا)، يأتي إدراج المغرب لمخطوط “الأرجوزة الطبية” لابن طفيل في سجل اليونسكو ليشكل علامة فارقة.
وبينما يواصل المغرب مسيرته في توثيق إرثه العلمي والحضاري، نجد بعض الدول المجاورة العديمة الهوية والأصول والتراث ما زالت عالقة في عمليات سرقة تراث الغير ونزاعات حول هوية التراث الثقافي. هذا الإنجاز ليس مجرد تسجيل لوثيقة تاريخية، بل هو تأكيد على ريادة المغرب العلمية عبر العصور ودوره الرائد في حفظ الموروث الحضاري الإسلامي والعالمي.
في خطوة تُعزّز مكانة التراث العلمي العربي والإسلامي (والمغربي تحديدا)، أدرجت منظمة اليونسكو مخطوط “الأرجوزة الطبية” للعالم والفيلسوف المغربي ابن طفيل ضمن “سجل ذاكرة العالم”، وهو ما يُبرز إسهامات الحضارة المغربية العربية في تاريخ الطب والعلم، ويُسلط الضوء على كنوز المخطوطات التي ما زالت تُخبئ بين طياتها أسرارا علمية وفكرية..
الأرجوزة الطبية: موسوعة شعرية في الطب
وصفت اليونسكو “الأرجوزة الطبية” بأنها “مؤلف طبي فريد من نوعه”، كُتب على شكل قصيدة شعرية من بحر الرجز، وهو نمط تعليمي شائع في التراث المغربي والعربي عموما لسهولة حفظه وإيقاعه الموسيقي. وتضم الأرجوزة نحو 7700 بيت شعري موزعة على 148 صفحة، تصف أمراض العصر الوسيط وأعراضها وعلاجاتها بدقة لافتة..
يقسم العمل إلى سبع مقالات رئيسية، تغطي تشخيص وعلاج أمراض الرأس، والجهاز التنفسي، والهضمي، والبولي، بالإضافة إلى الحميات والأمراض الجلدية. كما يُعد النص مرجعا في علم السموم (التوكسيكولوجيا)، مما يجعله شاهدا على تطور المعرفة الطبية في القرن السادس الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي)..
تعليقات الخبراء: إرث علمي يتجاوز الحدود
في هذا السياق .. علّق الدكتور أحمد الشرقاوي، أستاذ تاريخ الطب في جامعة القاهرة، قائلا: “ابن طفيل لم يكن فيلسوفًا صاحب ‘حي بن يقظان’ فحسب، بل كان طبيبا بارعا حوّل المعرفة اليونانية والعربية إلى إرث منهجي. والأرجوزة تمثل ذروة التكامل بين الأدب والعلم في الحضارة الإسلامية”.
من جهتها، ذكرت الدكتورة فاطمة الزهراء العلوي، الباحثة في المخطوطات الطبية بمركز الدراسات التاريخية بالرباط، أن “التسجيل يُعيد الاعتبار لدور المغرب كحاضنة للعلماء الذين أسهموا في الحضارة الإنسانية، خصوصا في ظل تجاهل بعض المراجع الغربية لهذه الإسهامات”
سياق دولي: اليونسكو تُوسع ذاكرة العالم
جاء إدراج “الأرجوزة” ضمن 74 مجموعة وثائقية جديدة شملت مخطوطات من موريتانيا (مكتبات شنقيط) وأرشيفات من كوت ديفوار (أرشيف أمادو هامباتي با). وفي تصريح لها، قالت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي (1): “هذه الوثائق تُشكل نسيجا ثقافيا عالميً هشا، ويجب حمايته كشاهد على التعددية والإبداع البشري”
وقد لفت القرار انتباه وسائل إعلام عربية ودولية، حيث وصفت صحيفة “الغارديان” البريطانية التسجيل بأنه “تذكير بعصر كان فيه العالم الإسلامي جسرا للمعارف بين الشرق والغرب”، بينما رأى موقع “لوفيغارو” الفرنسي أن “العمل يُمثل جمالية العلم العربي الذي جمع بين الدقة الطبية والفن الشعري”..
ورغم الفرحة بالقرار، يطرح الخبراء تساؤلات حول خطط نشر المخطوط رقميا لضمان وصوله للباحثين، إذ تقول “منى الريسوني”، مديرة الأرشيف الوطني المغربي: “التسجيل خطوة أولى، لكن الأهم هو تحويل النص إلى مادة متاحة للدراسة مع ضمان حقوق الملكية الفكرية”..
ويذكر أن “سجل ذاكرة العالم” يضم الآن 570 مجموعة وثائقية، من بينها مخطوطات نادرة مثل مخطوطات “تيمبوكتو” ووثائق “طريق الحرير”. وبإدراج “الأرجوزة”، يُكرس المغرب مرةً أخرى دوره كحارس للتراث العربي والإسلامي والعالمي في وجه محاولات النسيان أو التهميش..
ختاما نقول .. يُعيد هذا الإنجاز التأكيد على أن المخطوطات العربية ليست مجرد ماضي، بل وقودٌ لمستقبل البحث العلمي والتفاعل الثقافي العالمي..
إن تسجيل “الأرجوزة الطبية” في ذاكرة العالم يذكرنا بأهمية التوثيق العلمي للحضارات. في وقت تشهد فيه المنطقة سرقات تراث الغير ونزاعات حول الملكية الثقافية، يأتي هذا الإنجاز ليرسخ نموذجا يحتذى في التعامل مع التراث. المغرب، من خلال هذه الخطوة، لا يحفظ تراثه فحسب، بل يقدم درسا في كيفية تحويل الإرث التاريخي إلى رصيد معرفي معاصر. فهل ستستلهم الدول الأخرى هذا النهج في التعامل مع تراثها بعيدا عن الصراعات العقيمة؟ ولعل الجواب ربما يكمن في قدرتنا على فهم أن التراث الحقيقي هو ما يثري الإنسانية جمعاء، لا ما يثير النزاعات بين الشعوب.
هوامش:
(1)- أودري أزولاي : ابنة المستشار الملكي أوندري أزولاي .. و المديرة العامة لليونسكو حاليا ..