تمغربيت:فتيحة شاطر
انطلاق الدورة الـ13 من مهرجان “نجوم كناوة” مساء الخميس 21 غشت بساحة الأمم المتحدة أعاد صياغة الحدث من مجرد موعد استعراضي إلى أداة سياسة ثقافية تعمل على ثلاثة محاور متقاطعة: حماية التراث، تفعيل الفضاء العمومي، وتحريك الاقتصاد الحضري. اختيار الساحة المركزية ومسيرة الفرق عبر أزقة المدينة القديمة يخلقان سينوغرافيا مفتوحة تُحوّل النسيج التاريخي للدار البيضاء إلى منصة سردية لامتداد الذاكرة الكناوية داخل مدينة ذات طابع حديث وصناعي؛ هنا تتجاور “هوية البيضاء” المعاصرة مع جذور روحية وإفريقية عبر الأداء، اللباس، الإيقاع، والطقوس.
على محور حماية التراث، يكرّس حضور “المعلمين” من مدن متعددة—ومنهم حميد القصري في سهرة الجمعة 22 غشت—مبدأ التداول بين الأجيال: التلقين الحي على الخشبة، وورش الأطفال الموازية، وصِلات الحِرَف اليدوية المعروضة حول الساحة. هذه الحلقة المتكاملة (معلّم/متعلم/صناعة مرافقة) تضمن بقاء الفن خارج قفص “الفولكلرة” الجامدة، وتُبقيه ممارسة اجتماعية قابلة للتطور دون فقدان عمقها الروحي. انفتاح المنصة على مواهب شابة يخفّف أيضًا من مركزية الأسماء الكبيرة، ويؤسس لاقتصاد معرفة محلي حيث تتحول الخبرة إلى رأس مال ثقافي قابل للتداول.
أما تفعيل الفضاء العمومي فيظهر في قرار إخراج العروض إلى ساحة الأمم المتحدة والمدينة القديمة بدل الاكتفاء بقاعات مغلقة. هذا الخيار يعيد الاعتبار للفضاء كـ“سلعة عامة” تُنتَج وتُستهلك جماعيًا: الجمهور يشارك جسديًا في المسيرة، يسترد حقه في المدينة، ويعيد تعريف الأمان الحضري عبر الثقافة لا عبر الحواجز. بهذا المعنى، المهرجان تمرينٌ على التعايش؛ طبقات اجتماعية وأحياء مختلفة تلتقي على إيقاعٍ واحد، فتتكوّن ثقة مدينية ناعمة توازي أهميتها أي تدخل أمني أو عمراني. ورش الأطفال هنا ليست نشاطًا تربويًا فحسب؛ إنها ضمانة استدامة اجتماعية تُدخل الجيل الجديد إلى التراث عبر التجربة لا الوعظ.
اقتصاديًا، يشتغل “نجوم كناوة” كرافعة للاقتصاد الليلي والاقتصاد الإبداعي: تدفقات الزوار تحفّز تجارة القرب (مقاهٍ، مطاعم، نقل، إيواء)، ومعرض التعاونيات يربط الحِرفة بسردية المدينة مما يرفع القيمة المُضافة للمنتجات اليدوية عبر “العلامة الترابية للدار البيضاء”. في نموذج الحوكمة، الشراكة بين الجماعة والوزارة وجهة الدار البيضاء–سطات تُظهر كيف يمكن للتمويل العمومي المشترك أن يخلق أثرًا مركّبًا يفوق مجموع مساهمات الأطراف، شريطة تثبيت آليات تقييم للأثر (حضور، إنفاق مباشر، فرص شغل مؤقتة، مدى استفادة فنانين شباب، وقياس رضا الساكنة المجاورة).
ثقافيًا وسياسيًا، يلعب المهرجان دور الدبلوماسية الثقافية داخليًا وخارجيًا. داخليًا، يقدّم جوابًا على سؤال الهوية في مدينة كوزموبوليتية: لا تعارض بين الحداثة والروح الكناوية؛ بل تلاقٍ يثري العرض الثقافي للعاصمة الاقتصادية. خارجيًا، يجدد صِلات المغرب الإفريقية من خلال موسيقى وطقوس ذات جذور عابرة للصحراء، ما يحوّل المنصة إلى وسيط رمزي بين الشمال والجنوب ويعزز صورة البلاد كفاعل ثقافي ذي عمق إفريقي. هذا البعد الرمزي يتقاطع مع سياسات أوسع للتراث اللامادي ويمنح المهرجان قابلية استقطاب جماهير دولية وجاليات مغربية مقيمة بالخارج.
مع ذلك، نجاح الصيغة الحالية لا يُغني عن تطوير البنية المؤسسية للمهرجان: هيكلة الحقوق المجاورة للفنانين الشباب، أرشفة رقمية عالية الجودة للعروض والورش، خطّة وصول وإتاحة (لذوي الإعاقة، لغير الناطقين بالعربية عبر شروح سياقية)، وبرمجة تربط “الاستماع” بـ“الفهم” عبر لقاءات قصيرة تشرح المقامات والآلات والرموز. إدراج مسارات موازية في فضاءات ثقافية بالمدينة (مكتبات، معاهد فنون، جامعات) يحوّل أيام 21–23 غشت من حدث إلى أسبوع كناوي حضري يوزّع الحركة على أكثر من محور ويخفّف الضغط على مركز المدينة.
خلاصةً، الدورة الـ13 من “نجوم كناوة” ليست تجمعًا فنّيًا عابرًا، بل منصة سياسة ثقافية متكاملة: تحمي تراثًا حيا، تفعّل فضاءً عموميًا جامعًا، وتُحرك عجلة اقتصاد حضري أخضر قائم على القرب والإبداع. استمرار هذه الدينامية يتطلب انتقالًا من منطق “التنظيم السنوي” إلى منطق “البرنامج على مدار العام”: مختبرات، إقامات فنية، تعاونيات إبداعية، وشبكات تبادل مع مهرجانات مماثلة داخل المغرب وخارجه. عندها فقط يصبح الإيقاع الذي يملأ ساحة الأمم المتحدة لثلاثة أيام نغمةً مستدامة في حياة المدينة، لا فاصلة موسيقية جميلة ثم صمت طويل