تمغربيت: فتيحة شاطر
دونباس ليست مجرد منطقة نزاع، بل قلب الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا. وادي توريتس والمدن الأربع فيه — كوسنتينيفكا، دروتوفكا، كراماتروسك، وسلابيانسك — يشكّلون الحزام الحصين، آخر خط دفاع أوكراني يمنع السيطرة الروسية الكاملة على دونيسك. هذه المواقع ليست عشوائية، بل نقاط مرتفعة تتحكم في الطرق الرئيسية وسكك الحديد المؤدية إلى كييف وخاركف، وفقدانها يعني فتح الطريق أمام تقدم روسي واسع وإعادة رسم خريطة النفوذ شرق أوكرانيا.
اقتراح بوتين خلال قمة ألاسكا بأن تتنازل أوكرانيا عن هذه الأراضي مقابل وقف مؤقت للقتال لم يكن مجرد ضغط سياسي، بل خطوة استراتيجية محسوبة بدقة. ومع ذلك، بدا ترامب عاجزًا عن قراءة هذه الخرائط، متذبذبًا في موقفه، متراجعًا عن فرض عقوبات حقيقية على موسكو، ومتأرجحًا بين الإشادة ببوتين وتقديم وعود فارغة لأوكرانيا. السياسة الأمريكية هنا تكشف ضعفًا منهجيًا: الإدارة لا تعي أن القرارات الكبيرة تُبنى على الجغرافيا كما تُبنى على القوة العسكرية، وأن التأخر في فهم خرائط النزاع يعني دائمًا منح الخصم فرصة لتعزيز موقعه.
السيطرة على دونباس تمنح روسيا القدرة على تشكيل ما يُعرف بـ “نوفو روسيا”، الحزام المتصل شمال البحر الأسود الذي كان جزءًا من الإمبراطورية الروسية في القرن الثامن عشر. ما يراه الغرب نزاعًا محدودًا هو في الواقع جزء من خطة روسية أوسع لإعادة ترتيب النفوذ في أوروبا الشرقية. بوتين لم يكتفٍ بالتحرك على الأرض، بل استغل الانقسامات الغربية، واستفاد من التردد الأمريكي في تطبيق العقوبات الاقتصادية بشكل صارم، ليُظهر موسكو قوة لا يمكن تجاهلها، في حين ظل ترامب منشغلًا بخطابه الداخلي وسياساته الاقتصادية المتذبذبة.
ترامب أظهر خلال القمة عدم القدرة على فرض أي ضغط حقيقي على بوتين، مكتفيًا بتصريحات عامة وتلميحات حول ضمانات لأوكرانيا لم تتحقق بعد. هذا التردد لا يعكس فقط ضعف الشخصية الأمريكية، بل يعكس خللاً أكبر في فهم واشنطن لطبيعة الحرب الحديثة: الحرب ليست مجرد صواريخ وطائرات مسيّرة، بل قراءة دقيقة للخرائط، واستغلال نقاط القوة الجغرافية والاستراتيجية للخصم.
دونباس ليست مجرد منطقة نزاع، بل اختبار لقدرة الغرب على مواجهة روسيا، وقياس حقيقي لحزم أمريكا في حماية حلفائها. بوتين يثبت مرة أخرى أن من يملك الخرائط، يملك القرار، وأن إدارة ترامب، بتذبذبها وعجزها عن الفعل الاستراتيجي، منحت روسيا فرصة لتعزيز مكانتها كقوة عظمى، بينما يبقى الغرب متفرجًا، عاجزًا عن مواجهة التحديات الحقيقية على الأرض