تمغربيت: فتيحة شاطر
حادثة وادي الحراش ليست مجرد فصل عابر في سجل الحوادث المرورية، بل هي مرآة عاكسة لواقع دولة تستهتر بأرواح مواطنيها، وتدير الشأن العام بعقلية “التأجيل والترقيع”، إلى أن تحوّل الموت الجماعي إلى حدث متكرر، لا يثير إلا بيانات جاهزة وصور بروتوكولية لوزراء ومسؤولين يوزّعون التعازي ببرود.18 جزائريًا وجزائرية لفظوا أنفاسهم الأخيرة في مياه الصرف الصحي، ليس بسبب القدر، ولا بسبب خطأ سائق، بل لأن السلطة التي تدير هذا البلد جعلت من حياة الناس أرخص من قطعة غيار، وأهون من إصلاح جسر أو تحديث حافلة. هذه الأرواح لم تزهق صدفة، بل سقطت ضحية منظومة كاملة: سياسة تقشف أعمى، إدارة فاسدة، إعلام مضلّل، ومسؤولون يعيشون في عالم آخر غير عالم الشعب.منذ سنوات، والجزائريون يصرخون بأن حافلات النقل تحوّلت إلى “توابيت متحركة”، وأن البنى التحتية في انهيار مستمر، وأن العاصمة، التي يفترض أن تكون واجهة الدولة، مازالت عالقة في شبكة نقل تعود لعهد الاشتراكية. لكن الدولة فضّلت أن تغمض عينيها، وأن تنشغل بحماية الكراسي، وتلميع الصورة في الخارج، بدل أن تنقذ أرواح أبنائها.وادي الحراش نفسه، هذا النهر الذي سوّقه الإعلام الرسمي في صورة “واحة خضراء”، انكشف فجأة كمصب للنفايات ومرتع للأوبئة ومقبرة جماعية. الإعلام لم يكن مجرد شاهد زور، بل كان شريكًا في الجريمة، لأنه بدلاً من أن يضغط لكشف الحقيقة، انخرط في صناعة الوهم وتجميل الخراب، حتى انفجر الوهم بصرخة الضحايا وهم يغرقون في المياه القذرة.السلطة سارعت، كما في كل مأساة، إلى ترديد الأسطوانة ذاتها: يوم حداد وطني، تعويضات مالية، لجنة تحقيق، ووعود بالإصلاح. لكنها لا تدرك أن الناس لم يعودوا يصدقون هذه الطقوس البالية. فالجزائريون يعرفون أن التحقيقات تنتهي بلا نتائج، وأن التعويضات مجرد رشوة صامتة لإسكات العائلات، وأن الإصلاحات لا تخرج عن نطاق الخطابات الفارغة.المأساة الأكبر أن وادي الحراش ليس حادثة معزولة. ففي العام 2023 احترق 34 مواطنًا في باص بتمنراست، ولم يعلن يوم حداد، ولم ترصد تعويضات، وكأن أرواح الجنوب أرخص من أرواح العاصمة. هذا التمييز في التعاطي مع الكوارث يكشف هشاشة العقد الاجتماعي، ويؤكد أن الدولة لا ترى مواطنيها على قدم المساواة، بل تديرهم وفق منطق جغرافي وجهوي بائس.إن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس: كيف سقطت الحافلة في وادي الحراش؟ بل: كيف سقطت الدولة كلها في هاوية العجز والفشل؟ وأي مستقبل يمكن أن يُبنى فوق منظومة تتعامل مع المآسي كأنها “أحداث عرضية” بينما هي في الحقيقة نتيجة طبيعية لسنوات من الفساد وسوء الإدارة؟لقد تحولت سياسة التقشف، التي كان يُفترض أن تكون خيارًا اقتصاديًا مؤقتًا، إلى مقصلة يومية لحياة الجزائريين. فالحكومة، في سعيها المحموم لاكتناز العملة الصعبة، تركت قطاع النقل يتداعى، وحرمت الناس من أبسط وسائل الأمان. قطع الغيار صارت حلمًا بعيد المنال، شراء حافلات جديدة بات ضربًا من الخيال، فيما يزداد جشع الناقلين وسط غياب الرقابة والتنظيم.في النهاية، ما كشفه وادي الحراش أن الخطر الأكبر على الجزائر ليس حافلة مهترئة تسير في شوارع العاصمة، بل سلطة مهترئة تجر البلاد إلى الانهيار. فالحافلات القديمة يمكن استبدالها، لكن ماذا عن منظومة حكم متآكلة أثبتت عجزها البنيوي عن حماية حياة الناس، وعن بناء دولة تليق بتضحياتهم وتاريخهم؟هذه الحادثة يجب أن تُقرأ كإعلان رسمي عن انهيار العقد الاجتماعي: السلطة لم تعد قادرة على حماية مواطنيها، والمواطنون لم يعودوا يثقون بسلطتهم. وكل ما يحدث من لجان وتعويضات وأيام حداد ليس إلا محاولة لتجميل جثة سياسية بدأت تتعفن منذ زمن.إن الحقيقة المرة التي لا تريد السلطة مواجهتها هي أن الجزائر اليوم ليست بحاجة إلى سحب الحافلات المهترئة فقط، بل إلى سحب المسؤولين والمؤسسات المهترئة، إلى اجتثاث ثقافة الاستهتار بأرواح الناس، وإلى ثورة حقيقية في طريقة إدارة الشأن العام. فالحافلة التي سقطت في وادي الحراش ليست سوى رمز؛ الرمز لدولة بأكملها فقدت فراملها، وتتهاوى بسرعة نحو الهاوية، ولا أحد يعرف كم من الأرواح ستُزهق قبل أن يحدث الاصطدام الأخير.