تمغربيت: فتيحة شاطر
غزة، الأرض المحاصَرة بالصمت كما بالقنابل، لا تزال تواجه أعتى أشكال الإبادة الجماعية في زمنٍ يدّعي أنه ينتمي إلى الحضارة والعدالة الدولية. منذ أكتوبر 2023، لم تهدأ نيران الحرب، ولم تتوقف آلة القتل، وكأن قطاع غزة كُتب عليه أن يكون المختبر الدموي لصياغة خرائط جديدة في الشرق الأوسط، على حساب شعبٍ يتشبث بحقه في البقاء.
ما يجري في غزة اليوم يتجاوز حدود المعارك التقليدية. هو عدوان مركّب، مادي ونفسي، مباشر وغير مباشر، هدفه الأساسي هو تحطيم الإرادة الجماعية للشعب الفلسطيني، ودفعه تدريجيًا نحو الاستسلام لفكرة التهجير. فالاحتلال لا يكتفي بالقصف، بل يحاصر، يجوع، يقطع الدواء والماء، ويدمر البنية التحتية والمنشآت الحيوية، ليجعل من غزة مكانًا لا يُطاق العيش فيه، ثم يُظهر الرحيل كخلاصٍ مؤقت.
الخطورة لا تكمن فقط في عدد الضحايا، رغم فظاعته، بل في النمط المتعمد للحرب. كل شيء فيها يبدو مصممًا لإرغام الناس على الرحيل: قتل جماعي، استهداف مباشر للطوابير الباحثة عن الطعام، تدمير المستشفيات، منع المساعدات، وتجفيف كل منابع الحياة. إنها حربٌ صامتة في ظاهرها، شرسة في باطنها، تلبس قناع “الدفاع عن النفس” لكنها تنفّذ خطة طويلة الأمد للتهجير القسري وتفكيك النسيج السكاني الفلسطيني.
وسط هذا الخراب، يقف العالم مترددًا، وأحيانًا متواطئًا، يتحدث عن الحلول، لكنه يعجز عن اتخاذ خطوات عملية. مجلس الأمن الدولي، رغم مسؤوليته الأخلاقية والقانونية، ما يزال عاجزًا عن فرض وقف فوري لإطلاق النار، كما تطالب بذلك وزارة الخارجية الفلسطينية. بل إن استمراره في التسويف والمماطلة، بات يُقرأ كرسالة ضمنية: أن ما يجري مقبول ما دام لا يزعج توازنات القوى الكبرى.
في ظل هذه المماطلة، تتسارع المشاريع الاستيطانية في الضفة، وتُرسم سيناريوهات “ما بعد غزة”، ليس لإعادة إعمارها، بل لتفكيكها، وتحويلها إلى أزمة إنسانية دائمة تُدار من بعيد. أما الحديث عن حل الدولتين أو مؤتمر دولي للسلام، فيبدو حتى الآن مجرد شعارات معلبة، تُسحب من الأدراج لتجميل المشهد، لا لتغييره.
ورغم كل هذا، فإن الشعب الفلسطيني لم يقبل بالانكسار. الغزيون الذين خرجوا من تحت الأنقاض، ما زالوا يقاومون بالصبر، والذاكرة، والتمسك بالبقاء. فالفلسطيني لا يرى في التهجير حلاً، بل يرى فيه نكبة جديدة تُفرض بالقوة الناعمة بعد أن فشلت في فرضها بالسلاح فقط.
الرهان الآن ليس فقط على وقف الحرب، بل على فضح هذا المشروع التهجيري بكافة أبعاده، وعلى كشف كيف تُستخدم الحرب وسيلة لإعادة تشكيل الديموغرافيا بالإكراه، وسط صمتٍ دولي مخزٍ. إن أكبر خطر يهدد فلسطين اليوم ليس الاحتلال وحده، بل تطبيع الصمت والحياد، وتسويق اليأس كقدرٍ لا مفر منه.
إن المطلوب ليس التعاطف، بل تحرك سياسي وإنساني فعلي، يضع حدًا للمأساة، ويوقف هذا النزيف المفتوح، ويُعيد الاعتبار لحل عادل يضمن للفلسطينيين حقهم في أرضهم، وسيادتهم، وحياتهم الكريمة، دون أن يُطلب منهم الثمن مسبقًا على مذبح ما يُسمى “الاستقرار الإقليمي”.