تمغربيت:
هناك فئات واسعة لا تفهم قواعد العبة السياسية.. ولا تعرف كيف تقدّر الدولُ موقفَها السياسي من القضايا الجيوسياسية الكبرى. تناقش السياسة بمنطق المبادئ والسجالات الإيديولوجية والانتخابية، لا بمنطق المصالح الاستراتيجية.
قراءة في بنيوية الخطاب السياسي
في هذا الإطار، يمكننا إدخال التشكيكات التي رافقت الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء.. وتأييد إسبانيا لمخطط الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية المغربية. تبني هذه التشكيكات موقفها على التصريحات التي يدلي بها زعماء اليمين الإسباني، دون تمييز بين موقع الإدارة وموقع المعارضة، ولا بين خطاب الانتخابات ومقتضى المصالح الإسبانية.
وقد وجدت هذه التشكيكات غايتها في نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في إسبانيا.. لتقول إن المغرب مهدد في مكتسب “الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء” بعد فوز الحزب الشعبي بنتائج الانتخابات.
على النقيض من هذه التشكيكات، هناك تحليلان يجب أخذهما بعين الاعتبار:
– التحليل الأول: أن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة ليست في صالح الحزب الشعبي إلى درجة الحسم وإن فاز بها ب 136 مقعدا على حساب منافسه الحزب الاشتراكي (حزب بيدرو سانشيز) ب 122 مقعدا. فكلا الحزبين غير قادر على تشكيل الأغلبية الحكومية لوحده، بل يحتاج إلى تمثيلية أحزاب أخرى (فوكس ب 33 مقعدا، تحالف اليسار “سومار” ب 31 مقعدا).. وهو ما يعني أن جولة أخرى من المنافسة بين الحزبين قد انطلقت بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية.. الأمر الذي يتيح فرصة جديدة للحزب الاشتراكي للحفاظ على قيادة البلاد، كما يعزز استمرار العلاقات المغربية الإسبانية على نفس أرضية الاتفاق الأخير بين البلدين.
التحليل الثاني..
– التحليل الثاني: أن نتائج الانتخابات أفرزت تصدرا للقوى المعتدلة، على حساب القوى المتطرفة يمينا (فوكس) ويسارا (تحالف اليسار).. وهو ما يعني أن التراجع عن سياسة حكومة سانشيز في حال تشكيل حكومة جديدة بقيادة الحزب الشعبي أمر غير وارد.. وقد تنتُج عن هذا المستجد بعض المناورات، أو تغيير في اللهجة المعتادة عند حكومة سانشيز. وربما فتح الملف من جديد مع الإدارة المغربية؛ إلا أن الأمر لن يرقى على الأرجح إلى مراجعة الموقف الإسباني الأخير من قضية الصحراء المغربية.
ليس هذا فقط ما يجب استحضاره في سياق استشراف مستقبل العلاقات المغربية الإسبانية.. بعد النتائج الانتخابية الأخيرة؛ بل وجب استحضار متدخلات أخرى أيضا:
المصالح أولا..
– تقدير المصالح الإسبانية؛ فحكومة سانشيز، وبالرغم من الموقف الخاص والمتقدم للاشتراكيين الإسبان من قضية الصحراء المغربية، لا تؤسس موقفها على مبدإٍ خالص.. وإنما على تحليل جيوسياسي وتقدير موقف تحكمه عدة عوامل: الضغط المغربي في سبتة ومليلية.. تشكل نظام دولي جديد تفقد معه عدد من الملفات العالقة أسباب استمرارها، ومنها النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.
– العامل الخارجي؛ فالقرار الإسباني بخصوص ملف الصحراء المغربية يراعي عددا من الملفات الأخرى.. لعل أبرزها علاقة إسبانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي مدى تدخل أطراف أمريكية في قضية الصحراء المغربية، وإلى أي حد هي مستعدة لدعم هذه الأطروحة أو تلك؟! وعليه، لا يمكن استشراف الموقف الإسباني منفصلا عن الموقف الأمريكي بخصوص ذات القضية (راجع مقالا سابقا بعنوان “الصحراء المغربية وانتصار “الاعتراف”).
– تركة فرانكو؛ وهي تركة في انحسار مستمر داخل الإدارة والجيش والكنيسة والمجتمع المدني في إسبانيا. وهو ما يفرض سؤال: ما نوع العلاقة بين اليمين الإسباني، خاصة الحزب الشعبي، وتركة فرانكو؟ وما مدى قدرة هذه العلاقة على التحرر من العوامل الخارجية والداخلية التي تحكم عليها بالتلاشي مع مرور الزمن؟
تتوفر الدولة على معطياتها الخاصة، وتنتج تحليلات استباقية على ضوء هذه المعطيات؛ وهذا غير ما يتوصل إليه عدد من المتابعين الذين إما يعانون من ندرة المعطيات، أو من مشاكل في التحليل والقدرة على الاستشراف.. والباحث عن الحقيقة في موقف الدولة مطالب باكتساب منطقها أولا، ثم البحث عن عناصر قراءتها للمشهد ثانيا؛ أما الهرولة نحو التشكيك والاستنكار ف”جعجعة بلا طحين”، تشغيب على الدولة ممن ليس أهلا للنقد والتحليل، فكيف بتقدير موقف في سياق جيوسياسي معقد؟!