تمغربيت: الصحراء المغربية .. مع الحسن شلال
في قلب تندوف، تعيش جبهة البوليساريو لحظاتها الأكثر إرباكا منذ عقود. فبينما كانت تروّج لنفسها يوما ما كحركة تحرير وطني، تجد نفسها اليوم في قفص الاتهام الدولي، متهمة بالارتباط بإرهاب إيران، ومحاصرة بضغوط داخلية تدفعها للتراجع عن خطابها المتشدد. القصة لم تعد مجرد نزاع إقليمي، بل تحولت إلى ملحمة من التناقضات، حيث تتهاوى الأوهام الواحد تلو الآخر..
عندما بدأ الغرب يفتح عينيه
لم تكن تغريدة السير “ليام فوكس” وزير الدفاع البريطاني السابق، مجرد كلمات عابرة. بل كانت صفعة قاسية للبوليساريو، حين وصفها بـ”الوكيل الإيراني”، مقارنا إياها بحماس وحزب الله. ولم يكن فوكس وحده، فقد سبقه عضو الكونغرس الأمريكي “جو ويلسون” الذي وعد بـ”إصلاح ما أفسدته الإدارات السابقة” عبر تقديم قانون لتصنيف البوليساريو كمنظمة إرهابية..
ويبدو أن الأمر يعود إلى تقارير استخباراتية وتحركات ميدانية كشفتها تحقيقات صحفية، مثل تحقيق “واشنطن بوست” الذي فضح وجود مئات من مقاتلي البوليساريو في السجون السورية بعد قتالهم إلى جانب الميليشيات الإيرانية. ولم يكن ذلك سوى غيض من فيض، فالتقارير الاستخباراتية تتحدث عن تدريبات مشتركة بين البوليساريو والحرس الثوري، وعن شحنات أسلحة إيرانية تصل إلى تندوف عبر طرق معبدة بالتواطؤ الجزائري..
أضا وفي البرلمان الأوروبي، كان النائب الفرنسي “نيكولا باي” أكثر وضوحا حين قال: “البعض يتظاهر بعدم رؤية الطبيعة الإرهابية للبوليساريو، لكن علاقتها بحزب الله تكفي لإزالة أي شك”. وكلماته هذه تمثل انعكاسا لتحول جيوسياسي أكبر: فالغرب لم يعد مستعدا للتغاضي عن جماعة تهدد حليفا استراتيجيا مثل المغرب، بينما تتعاون مع خصومه في طهران..
البوليساريو.. انهيار داخلي وخطاب متهافت
أما في مخيمات تندوف، حيث الغبار واليأس يتساويان في الكثافة، بدأت الساكنة تدرك أن “الحلم الانفصالي” لم يكن سوى سراب. فالاحتقان بلغ ذروته، والقيادة الانفصالية وجدت نفسها مضطرة لتغيير سرديتها. وفجأة، خرج “إبراهيم البشير بيلا”، الذي يوصف بأنه وزير داخلية البوليساريو المزعوم، ليقول إن “الحكم الذاتي خيار مطروح”..
فكانت العبارة مفاجئة، لكنها لم تكن بريئة. فبعد سنوات من رفض أي حديث عن الحكم الذاتي، ها هي البوليساريو تقدم تنازلا تاريخيا، وإن كان بلسان ملتو. حيث حاول “بيلا” التخفيف من حدّة القفزة بالادعاء أن المقترح “ليس جديدا”، مستندا إلى سردية قديمة عن رفض الجزائر للحكم الذاتي أيام الاستعمار.
في هذا الصدد، “الطالب بوي أباحازم”، أحد وجوه الصحراء المغربية، علق على الأمر بلسان الواثق: “هذا تحول قسري، ليس اختياريا. البوليساريو تعرف أنها خسرت المعركة الدبلوماسية، وأن سكان المخيمات لم يعودوا يتحملون الوهم”
والحقيقة أن التصريح لم يكن موجها للعالم، بل كان محاولة يائسة لتهدئة الغضب الداخلي. ففي المخيمات، لم يعد الحديث عن “الاستقلال” يجذب أحدا، بل صار سجناء مخيمات العار يسألون عن الطعام، عن الدواء، وعن مستقبل ضائع بين رمال الصحراء وجشع القيادة..
الجزائر وإيران.. لعبة الشيطان بالوكالة
وراء كل هذه الأزمات، هناك لاعبون آخرون يتحركون في الخفاء. الجزائر، التي ظلت لسنوات تقدم نفسها كـ”حامية للقضية الصحراوية”، وجدت نفسها متورطة في فضيحة أكبر مما تتحمل. وتقارير أمريكية تتهمها بتسهيل نقل الأسلحة الإيرانية للبوليساريو، بينما تكشف تحالفات الجبهة مع جماعات مثل حزب الله عن شبكة مصالح تجعل من الجزائر طرفا في تحالف إقليمي خطير..
أما إيران، فلم تعد تخفي لعبتها. فكما فعلت في اليمن وسوريا والعراق، تستخدم البوليساريو كورقة ضغط ضد المغرب وحلفائه. لكن هذه المرة، يبدو أن الاستراتيجية الإيرانية تواجه تحديا غير متوقع: فالغرب لم يعد يشتري أكذوبة “النضال المشروع”، والمغرب نجح في كشف حقيقة البوليساريو كذراع لإرهاب إقليمي..
اليوم، البوليساريو تقف على حافة الهاوية. والضغوط الدولية تزداد، والدعم التقليدي يتآكل، والسكان في المخيمات لم يعودوا يصدقون الوعود. حتى الخطاب السياسي للجبهة أصبح متناقضا إلى درجة السخرية: فبينما يتحدث قادتها عن “الحكم الذاتي” كخيار، لا يزالون يرفضون الجلوس إلى طاولة المفاوضات دون شروط مستحيلة..
لكن التاريخ لا يرحم. فكما سقطت أحلام الانفصال في أماكن أخرى من العالم، ها هو مصير البوليساريو يبدو محسوما.. والحقائق التي حاولت البوليساريو إخفاءها لعقود صارت الآن مكشوفة للعالم كله.
فهل ستنتهي القصة باستسلام واعتراف بالهزيمة، أم بانهيار كامل لجماعة لم تعد تعرف حتى ما تريد؟