تمغربيت:
عرف عصر السلطان محمد بن عبد الله العلوي نشاطا تعليميا.. وتفرغا من الطلبة لدراسة العلم وتتبع مسائله، والرحلة في طلبه، والجلوس لتلقيه من شيوخه بالمدن والبوادي.
وكان لشخصية السلطان محمد بن عبد الله دورا كبير في تنشيط الحركة العلمية.. وتنشيطه لها انطلق من منطلقين رئيسيين :
• أولاهما : أن السلطان محمد بن عبد الله هو شخصيا من أبرز علماء هذا العصر.. فهو قد درس مختلف العلوم التي كانت سائدة في عصره، وبرز فيها، وكان شغوفا بالعلم إلى درجة أن مسؤولياته العديدة كملك للبلاد، لم تصرفه في يوم من الأيام عن الدرس والبحث. وهذا ما جعله يشجع الحركة العلمية ويبذل في سبيل تشجيعها الوقت والمال..
• ثانيهما: ما جبل عليه هذا العاهل المجتهد من روح إصلاحية لم تقتصر على تشجيع العلم وأهله فحسب.. بل تجاوزت ذلك للتفكير بجدية وعمق في إصلاح مناهج التعليم، وفي انتقاء الكتب الدراسية المفيدة.. وفي بث روح الطموح العلمي دون الاقتصار على مجرد تحصيل القواعد وفهم المسائل وحل المشاكل.
ومن هذين المنطلقين عمل السلطان محمد بن عبد الله على تشجيع الحركة الفكرية.. وعلى دعم مشروعه الإصلاحي، الذي تخللته ثلاثة أركان فيما يظهر لي حسب المرسوم الإصلاحي الذي أصدره سنة (1192ه/1778م) :
• تحديد الأسلوب التعليمي
• تحديد المناهج الدراسية
• دعم العلماء
✓ تحديد الأسلوب التعليمي أو (طرق التدريس) :
يلاحظ في هذا المجال أن الأسلوب التعليمي بالمغرب ظل منذ العهد المريني وهو يسير تقريبا في اتجاه واحد تمثل في الاهتمام بالفروع.. والاعتماد في الدراسة على المختصرات، والمنظومات المعقدة قصد تجميع المعاني الكثيرة، في ألفاظ يسيرة وبغية التغلب على الحفظ والاستظهار، وهذا راجع إلى العادات و التقاليد.
فأمر السلطان بتحديد الأسلوب التعليمي ، القائم على المذاكرة والنقاش العلمي بين الطلاب ومعلميهم .
✓ تحديد المناهج الدراسية :
قام السلطان بتحديد المناهج الدراسية بإصداره مرسوما إصلاحيا لتنظيم المنظومة التعليمية بجامع القرويين (سنة 1192 هجرية/1778م).. ركز فيه على استبدال بعض الكتب في العلوم الشرعية ( العقيدة ،التفسير ، الحديث ، الفقه ، أصول الفقه ، الأدب ، اللغة وغيرها . .)
وبالنظر إلى أهمية هذا الموضوع فقد عالجه السلطان من عدة جوانب، واستحوذ الموضوع على حصة كبرى في المرسوم، نعرض لأهم ما ورد فيه :
“الفصل الثالث للمدرسين في مساجد فاس : فإننا أمرنا ألا يدرسوا إلا «كتاب الله تعالى» بتفسيره، وكتاب «دلائل الخيرات» والصلاة على رسول الله. ومن كتب الحديث « المسانيد» والكتب المستخرجة منها و « البخاري ومسلم» وغيرها من الكتب الصحاح.. ومن كتب « الفقه» « المدونة» و «البيان» و «التحصيل» و «مقدمات ابن رشد» و « الجواهر لابن شاس» و «النوادر» و «الرسالة لأبن أبي زيد» وغير ذلك من كتب الأقدمين.
ومن أراد تدريس « مختصر خليل» فإنما يدرسه بشرح «بهرام الكبير» و «المواق» و « الحطاب» و«الشيخ علي الأجهوري» و « الخرشي الكبير» لا غير (..)
وكذلك قراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم «كالكلاعي» و«ابن سيد الناس» «اليعمري».
وكذا كتب النحو «كالتسهيل» و «الألفية» وغيرهما من كتب هذا الفن و «البيان بالإيضاح» و «المطول»، وكتب التصريف.. وديوان الشعراء الست و «مقامات الحريري» و«القاموس» و«لسان العرب» وأمثالهما مما يعين على فهم كلام العرب.. لأنها وسيلة إلى فهم كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم وناهيك بها نتيجة.
ومن أراد علم الكلام « فعقيدة ابن أبي زيد» رضي الله عنه كافية شافية بها جميع المسلمين.. وكذلك الفقهاء الذين يقرؤون « الإسطرلاب» «وعلم الحساب»، فيأخذ حظهم من الأحباس لما في ذلك من المنفعة العظيمة والفائدة الكبيرة لأوقات الصلاة والميراث.
ومن أراد قراءة «علم الأصول» فإنه أمر قد فرغ منه، و« دواوين الفقه» قد دونت، ولم يبق اجتهاد.
ومن أراد أن يخوض في «علم الكلام» و «المنطق» و«علوم الفلسفة» وكتب «غلاة الصوفية» وكتب القصص، فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه ..
كما أن السلطان قام بتوجيه الطلبة في نفس المرسوم حيث قال :
هؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة.. ويضلون طلبة البادية، فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه والدين وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم.. فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها يظنون أنهم يحصلون على فائدة بالعلوم المذكورة ويتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث خير المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وإصلاح ألسنتهم بالعربية.. فيكون سببا في إضلال الطلبة المذكورين، وهؤلاء الطلبة يظنون أنهم ماهرون في العلوم المذكورة، فمن جاء يستفتيهم في مسألة فقهية لا يحسنون الجواب فيها.
ونأمر الفقيه « السيد التاودي» أن يكون عمله على ما في هذا الكناش بحمد الله ». انتهى
✓ دعم العلماء :
دعم السلطان للعلماء ومجالستهم ، و استشارتهم في مختلف القضايا والنوازل المستجدة.. وعقد المجالس العلمية معهم للمذاكرة والنقاش العلمي لتشجيع ودعم النهضة الحديثية و الفقهية التي كانت في السابق ، وإحيائها مجددا حيث كان كل يوم جمعة يعقد مجلسا حديثيا بمقصورة الجامع بمراكش.. مع علماء عصره من أمثال الشيخ حمدون بلحاج وأبو عبد الله محمد الغربي الرباطي وأبو عبد الله محمد المير السلاوي وأبو عبد الله محمد الكامل الرشيدي وأبو عبد الرحمن بوخريص وغيرهم كثير .
وقد رتب لمجالسه العلمية أوقاتا مضبوطة لا تتقدم ولا تتأخر حضرا وسفرا سلما وحربا وكان يحذو في ذلك حدو أستاذه وقدوته «أحمد المنصور الذهبي» ويجد فيها من اللذة والمتعة ما يثلج صدره ويملأ عقله حتى كان يقول : « لقد ضيعنا عمرنا في البطالة » ويتحسر على ما فاته من لذة العلم أيام الشباب.
كما قام بنقل العلماء إلى مراكش من فاس ومكناس وسلا وغيرهما وفرقهم على المساجد فكانوا يدرسون بها ويعلمون الناس ثم يحضرون مجلسه الحديث يوم الجمعة، كما إن تلك المجالس لم تقتصر على الحديث والسيرة بل كان يجالس الشعراء والكتاب والأدباء ويقرهم ويذاكرهم ويناقشهم، ومن الأدباء المرموقين بحضرته «أحمد بن الونان» صاحب الشمقمقية ، الشهيرة التي شاعت وذاعت ومحمد بن الطيب سكيرج وأحمد الغزال والكاتب الإسحاقي وأحمد عثمان وغيرهم.
ومن طرائف مجالسه العلمية أنه كان ذات يوم في مجلسه ألحديثي مع جماعة من العلماء وفيهم الشيخ حمدون بلحاج فناول وصيفه ميمون كأس الشاي وكان جالسا على اليسار فابتدره قائلا : إذا يقول الشيخ حمدون :
صددت الكأس يا ميمون عنـا
وكان الكأس مجراها اليمينـا
فقال الشيخ حمدون نعم وأزيد:
ولم تعمل بحكم الشرع فينـا
كما جلاه خير المرسلينـا
رسول الله فيما صح عنـه
من أنه قال ناولها يمينــا
ولم تقف همته عند هذا الحد بل كان يأمر العلماء بالتأليف في الحديث والتفسير وغيرهما ويرغبهم في ذلك ويشجعهم عليه فقد كلف ثلاثة من العلماء بشرح «مشارق الصغائي» حيث شرح الشيخ التاودي بن سودة ثلة الأول والشيخ عبد القادر بوخريص الثلث الثاني والحافظ إدريس العراقي الثلث الأخير إلا أن الموت تخطفه ولم يمهله لإتمام عمله فقام ولده عبد الله بإتمام شرح والده حتى جاء الشرح في عدة أسفار .
كما كلف الشيخ التهامي بن عمرو بشرح «الأربعين النووية» والأديب الغزال بتدوين رحلته الى الأندلس فكتبها وسماها «نتيجة الاجتهاد»، وأمر ابن عثمان بكتابة رحلته الحجازية فكتبها وسماها «إحراز المعلي والرقيب » .
وفي الختام ، يمكن القول أن السلطان محمد بن عبد الله كان من أهم الملوك الذين ساهموا في إصلاح التعليم.. وتجديد المنظومة التعليمية «بجامع القرويين» وجعله منارة للعلم والمعرفة في البلاد ،فقد كان من أعظم المهتمين بالعلم والتعليم في المغرب، و رائدا للإصلاح.