تمغربيت:
عندما نتحدث عن الخصوصية المغربية فإننا نتحدث عن عرَضيات وجوهريات، عن جملة مكونات أنتجها التاريخ المغربي الخاص بتدرج وعلى مراحل.. عن علاقة خاصة بين الطبيعي والتاريخي والبشري؛ دمجت هذه الخصوصية مشرقا في مغربٍ.. ومزجت العربي بالأمازيغي، والإفريقي بالأندلسي، والشمالي بالصحراوي، والمحلي بالوافد. حتى تشكل داخل الحدود المغربية ما يشبه “جزيرة” لا تشبه البلاد المحيطة بها.
رحلة البحث عن الخصوصية
هناك من يبحث عن هذه الخصوصية في تفاصيلها، فلا يهتدي إلى أصلها. يجِد لها أصولا في المجتمع، ثم ينزع إلى تفسير سلوك الدولة بها. والحال أن ما يجده لا يفسر منحى المجتمع ذاته، فكيف بتفسير سلوك الدولة. في الزاوية مناحٍ متعددة، فلماذا كان هذا المنحى دون غيره؟ وفي القبيلة أشكال، فلماذا كان هذا الشكل؟ وأيضا في الشرف تقاليد، فلماذا كان هذا التقليد؟ في الفقه مذاهب، فلماذا كان هذا المذهب؟ وفي العقيدة مدارس، فلماذا كانت هذه المدرسة؟ في اليهود طوائف، فلماذا كانت هذه الطائفة؟…
التحولات التلقائية للمجتمع..
هل ننفي بذلك التحولات التلقائية في المجتمع، تلك التحولات التي ينتجها المجتمع وفق قواعده (القواعد التي يكشفها “علم المجتمعات”)؟ الأصل المجتمعي حاضر.. وعليه تبني الدولة تدخلها وبناء شرعيتها، إلا أنه يصبح موجها بالسلطة إذا استقرت السيطرة في يدها. فتنمو في المجتمع عناصر دون أخرى، وتتعزز أساليب في العيش والتصرف دون أخرى.
يحتاج الأمر إلى انتباه خاص وتمييز بين العام في المجتمع والخاص الذي يتعزز فيه؛ الأول عفوي لا حدود له إلا حدود المجتمع ذاته.. أما الثاني فتعززه الدولة ويتطور بشكل منظم وفق مصلحة الدولة لا وفق مصلحة المجتمع، بل تكتسب هذه وجودها من وجود الأولى وما به تتحقق. بناء على هذا التحليل، تنتج الإيديولوجية الدينية للدولة تدينا خاصا، وينتج تدخلها في الاقتصاد نمط إنتاج خاص.. وتنتج علاقتها بالقبائل بنية قبلية خاصة، وينتج تصورها للشرف تقاليدَ شريفية خاصة، وينتج مجالها المسموح لتجارة اليهود ومشاركتهم طائفة خاصة…
ما “أسباب نزول” هذا الكلام؟ بعض المواقف الملتبسة من الخصوصية المغربية، لا تجد بدّا من الاعتراف بها، فتسعى تحت قناع هذا “الاعتراف” باحثة عن تفسيرات تسعفها في إخراج خصوصية المغاربة من يد الدولة إلى يد المجتمع. تنفي حاضنة الدولة، لتركّز على حاضنة المجتمع. تبحث عن اصطناع نوع من التناقض بين المجتمع ودولته، تحت قناع أكثر تقنيعا وتلبيسا، هو قناع “الخصوصية”!
لا يحتاج إثبات حاضنة المجتمع لنفي حاضنة الدولة؛ بل هذه تبني على تلك، والأولى تسلك طريقا خاصا بتدخل الثانية. يجب عوض نفي دور الدولة بغرض نصرة إيديولوجية لمجتمع متخيل؛ يجب عوض ذلك البحث عن تفسير جوهري تاريخي للمنحى المغربي الخاص في كل مجال ثقافي أو اجتماعي، اقتصادي أو سياسي. يجب أيضا التمييز بين دولتين عرفهما الواقع السياسي المغربي، دولة تقليدية قبل الحماية، ودولة حديثة تحافظ على الناجع من تقليدها في شرط الاستقلال؛ ذلك لأن مدى تدخل الدولة متعلق بهذا التحول، وما أتاحته أدوات الدولة الحديثة بهذا الخصوص لم يكن متاحا للدولة التقليدية.
(يتبع)