تمغربيت:
تقدير يعقبه رد..
كتب د. أحمد الريسوني مقالا بعنوان “الربيع العربي.. ما له وما ليس عليه”، يرد فيه على الذين يحمّلون مسؤولية “الخريف للربيع”، ومسؤولية الفتنة ل”الثورة” (وهي مزعومة).
ورغم تقديرنا للدكتور الريسوني كفقيه مقاصدي نستفيد من كتبه واجتهاداته المقاصدية، وقد نوهنا ببعض ما جاء فيها في وقته، كما نوهنا بموقفه الوطني من الصحراء المغربية لما تداعى عليه كثيرون، وعجز وجبن عن الدفاع عنه كثير من الإسلاميين؛ رغم ذلك، نجد من واجبنا مناقشته في هذا المقال، فهو على اختصاره يكشف موقف “أغلب الإسلاميين” من فتنة “الربيع”. وإذ نناقشه في هذا المقال، فإننا نناقش وجهة نظر الحركة الإسلامية في الموضوع. ف”إياك أعني.. واسمعي يا جارة”.
غاب المآل والمآلات..
يقول د. الريسوني في مقاله: “الربيع العربي كان عبارة عن ألوف من الشباب العربي، المظلوم المهضوم، الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات، ليقولوا ويكرروا: كفاية، كفاية.. اللهم إن هذا منكر، كفى من الظلم، كفى من النهب، كفى من الاستبداد، نريد شيئا من حقوقنا، نريد كرامتنا، نريد حريتنا.. تماما مثلما يخرج الناس إلى المصلَّيات إذا اشتد عليهم القحط، ليسألوا الله تعالى الغيث، ويأتيهم الإمام ليقول لهم: كفى من المعاصي والمنكرات، كفى من تعطيل الزكوات، وغيرها من الواجبات.. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]”.
هل نستطيع أن ننكر الظلم والفساد؟ لا أحد يستطيع ذلك. ولكن: ما الظلم؟ وما الفساد؟ هنا يقع الخلاف، وتفترق الاستراتيجيات، ويحدث الوهم للبعض، فتصبح لديهم الفتنة “ثورة”، والخريف “ربيعا”، والفوضى الخلاقة انتفاضة من رحم المعاناة..
فأين هي المآلات وأين تقديرها، وما ثمرة المقاصد إذا كنا سنخرج لنعبر تعبيرا سرعان ما يستحيل فوضى لأن الأهم فيه مخدوم، والأهم فيه خطابه ووسائله؟
خطاب عولمي..
خطابه عولمي، تحت أقنعة غيفارية يساروية، أو إسلاموية؛ نفس المضمون الذي اشتغلت عليه مراكز غربية بخصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد سقوط الثنائية القطبية، تم ترديده من قبل يسارويين وإسلامويين كل حسب مرجعيته الإيديولوجية.
أسلوب “الثورات الملونة”..
أما وسائله، فهي نفس الأساليب التي تم اختبارها في “الثورات الملونة” بأوروبا الشرقية، بل هي خطوات معدودة تم تنزيلها بحذافيرها في طرابلس والقاهرة وتونس وصنعاء وحلب، الخ. فعن أي “ثورة” وعن أي “ربيع” سنتحدث في ظل إملاءات “كاتالوغ” (دفتر توجيهي) تم إعداده، بل واختباره، بعناية؟!
يستشهد د. الريسوني بقول الله تعالى: “لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا” (النساء: 148)، ولكن هل ننسى المفاسد التي يجب دفعها؟! هل ننسى الترجيح بين المفاسد؟! هل ننسى ما تعلمناه في علم المقاصد من اختيار الأقل فسادا؟! هل “نجهر بالسوء” دون اعتبار للمآلات؟! هل نلقي بأنفسنا في فتنة شعواء (سوريا/ ليبيا/ اليمن/ أزمة تونس) دون انتباه لمفسدة أخف: “ظلم وفساد ينحسر بتدرج مع صمود في وجه الفتنة والاختراق والتبعية والاستعمار”؟! منطق المقاصد يفرض طرح هذه الأسئلة، وإلا فأين ثمرته؟!
حضرت المقاصد وغاب المقصد..
أما منطق التحليل الجيوسياسي، فهو يفرض نقاشا آخر، ود. الريسوني كفقيه مقاصدي في حاجة لمن يحقق مناطه في هذا الباب. تعيش الولايات المتحدة الأمريكية، في سياستها الرجعية (المجمع الصناعي العسكري/ رأسمال مالي يربح من السوق السوداء)، على السيطرة (لا الهيمنة الاقتصادية فحسب). وتقتضي هذه السيطرة اختلاق الحروب واصطناع الفتن، بل إن السلاح في مصانع الرأسمال المذكور يصنع على مقاس جغرافيات تلك الحروب.
بالحروب تستمر السيطرة، ويراكم الرأسمال العسكري أرباحا طائلة (كما يقع اليوم في الحرب بين روسيا وأوكرانيا الناتو)؛ وينتج البيئة الملائمة لسرقة البترول (كما يقع في سرويا) والغاز (ليبيا)، وللاتجار في المخدرات؛ وبالحروب تكثر الوفيات والأمراض والمجاعات، وهو ما يدخل في استراتيجية “تقليل الأفواه” وما يشكله ذلك من استنزاف ل”والدية” أمة وقدرتها على المقاومة.
وعلى الخريطة، يمكننا ملاحظة ما كان يراد للوطن العربي من وراء فتنة “الربيع”؛ فسوريا تمّ التخطيط لتقسيمها إلى خمس دويلات، والعراق إلى ثلاث، ومصر أريد الاقتطاع من أراضيها لصالح الكيان الصهيوني وسودان “البشير” وليبيا “الإخوان”، والسعودية استهدفت من حدودها مع اليمن (وهذا ما يفسر خلاف السعودية مع المجمع الصناعي العسكري) الخ.
“فتنة الربيع”..
ومن خلال فتنة الربيع، وما نتج عنها من “إرهاب متأسلم”، أريد استهداف روسيا من حدودها مع الوطن العربي، فلما فشلت تلك الخطة نسبيا، استهدِفت من حدودها مع الغرب ب”النازية الجديدة”.
بعد تعريف “الربيع العربي”، وهو التعريف الذي انتقدناه باختصار، يقول د. الريسوني: “فإلى هنا ينتهي الربيع العربي.. بعد ذلك: هرب من هرب، وتنحى من تنحى، وتولى من تولى.. وقاتل من قاتل، من الرؤساء وبطائنهم”، ثم يضيف: “بعد ذلك بدأت مرحلة ما بعد الربيع العربي.. فجاءنا الجحيم العربي. انتقلنا من ربيع الشعوب وربيع الشباب، إلى جحيم الأنظمة، وجحيم ما سمي بالثورة المضادة: عساكر مصر وأجهزتها، وكتائب القذافي، وشبيحة الأسد، وتدخل إيران وحزب الله وروسيا، والانقلاب السيسي الخليجي، وتسمين الحوثي، وصناعة حفتر، وإبراز سيف الإسلام، وتجنيد الذباب الإلكتورني، وجيوش من المرتزقة عبر العالم.. أما الصهيونية ودهاقنة الغرب، فمن وراء حجاب، وبقفازات ناعمة وكمامات واقية”.
وهنا لا بد من التمييز بين استراتيجيتين:
– استراتيجية فتنة “الربيع” ومن يقف خلفها، وهو كما ذكرنا “الرأسمال الصناعي العسكري” ذي النهج السيطري، بأساليب الحرب و”الفوضى الخلاقة”.
– استراتيجية مضادة للفتنة، بمبادرة بعض القوى العربية، عسكرية ومدنية، رسمية وشعبية؛ استثمرت تغير موازين القوى في الغرب، بل في العالم، وبتنسيق -ربما وهو الراجح-مع قوى دولية وإقليمية، لاستعادة استقرار ما يمكن استقراره، وما استعصى فبقي رهين استقرار النظام العالمي على نموذج جديد، ولا حل له قبل تشكل ميزان القوى الجديد.
وهكذا فما اعتبره د. الريسوني “ثورة مضادة”، ما هو إلا استراتيجية مضادة لاستراتيجية رأسمالية عسكرية، تحركت بعد نضج شروط ذلك. أطرافها ليسوا عربا فقط، بل ربما روسيين وصينيين وأوروبيين وإيرانيين، وربما أمريكيين. التأثير والتأثر العالمي موجود، ولا ضير إذا كان العرب فيه واعين بمصالحهم. تتفاقم المشاكل عندما يتحول العرب إلى جزء من استراتيجية الطرف الأكثر رجعية في الغرب، وهذا عينه ما سقط فيه “الإسلامويون واليسارويون” أيام فتنة “الربيع”. فعلى “الإسلامويين” أن “يستغفروا”، وعلى اليسارويين أن يصححوا عقولهم!!