تمغربيت:
كل نقاش حول قضية الصحراء المغربية يجب أن يستحضر وجودها لا في حاضرها فحسب، بل في ماضيها ومستقبلها أيضا. يجب استحضار القضية الوطنية الأولى للمغاربة:
1-في تاريخها:
كانت مهدا للدولة المغربية، حيث انطلق المرابطون من منطقة كانت مجالا لممارسة البيعة تؤديها قبائل الصحراء لسلاطين المغرب (بالوثائق)، ووعاء للخصوصية المغربية في بعدها الديني والمذهبي خاصة.. وساحة للتناقض بين استراتيجيتين استعمارية (إسبانية) ووطنية (مغربية)، وفضاء ملهما لحركة تحررية صحراوية مغربية سرعان ما تلقفتها أيادي الخصوم فانقسمت بين منشق عائد إلى أرض الوطن وعميل على النقيض من مصالحه (الوطن).
2-في استراتيجية النضال الوطني من أجل استرجاعها والدفاع عنها:
لم يستكمل المغرب وحدته ولن يستقر استقلاله إلا باسترجاعها.. من أجل تحريرها تأسس جيش تحرير الجنوب وعلى أرضها حوصر فرنسيا وإسبانيا.. إليها نفر المغاربة جماعات من مختلف ربوع الوطن مجسدين “ثورة ثانية للملك والشعب”/ المسيرة الخضراء بعدما نضجت شروطها الدولية والوطنية.. وعلى حدودها رابط الجنود وفي سبيل الدفاع عنها أنفقت القوات المسلحة الملكية التضحيات الجسام عتادا وأرواحا، ودفاعا عن مغربيتها تجند “جنود الدبلوماسية” لملء المساحات المتاحة في الأروقة الأممية والمنظمات الدولية.
3-على النقيض من خصومها:
الأساسيون منهم والثانويون، وكلهم في انحسار اليوم، الطرف الرجعي داخل و-م-أ (المجمع الصناعي العسكري/ خصوم المدنيين ودونالد ترامب).. والذي يعيش ويقتات من نشر الفوضى والتجزئة والتفكيك، بقايا نظام فرانكو في إسبانيا (داخل الإدارة والجيش والكنيسة والمجتمع المدني).. الطرف الفرنكوفوني في الإدارة الفرنسية يبتز المغرب بصحرائه ولا يرى مستقبلا لفرنسا إلا بالسيطرة على مستعمراتها السابقة.. الطرف الرجعي داخل العسكر الجزائري يعتبر معاداة المغرب خيارا استراتيجيا، المغرر بهم من الصحراويين وقيادتهم بعدما أفسدتها المعونات وأموال الشعب الجزائري، إلخ.
4-في وعي المجتمع المغربي بها:
في وعي أحزابه ونقاباته، حركاته وجمعياته المدنية؛ في وعي الإسلاميين واليسار، من يناصرها منهم ومن لا زال متخلفا عن ذلك، من اقترب من الوعي السديد بها ومن لم ينقلها بعد من دائرة العاطفة إلى دائرة العقل.
سنخصص هذا المقال لحدث من “الاستحضار الثاني”، نقصد حدث المسيرة الخضراء.. الملحمة الوطنية الكبرى، “الثورة الثانية للملك والشعب”. لا يُفهَم هذا الحدث من صورته فحسب، من الجموع الغفيرة تحمل المصاحف والأعلام استوت عند أفرادها الحياة والموت في سبيل الوطن.. قلت: لا تفهم “المسيرة الخضراء” من مظاهرها الملهمة فحسب، بل، أيضا وبعمق، من:
– الشروط التي أنضجت قرارها، أبرزها:
*اعتراف محكمة العدل الدولية في لاهاي بمغربية الصحراء، ورغم إقرارها بأن “الصحراء لم تكن أرضا سائبة.. وأن هناك علاقات بيعة لبعض القبائل إزاء سلطان المغرب”، إلا أنها تركت قرارها قابلا للتأويل بقولها: “ليست هناك علاقات سيادة ترابية قد تؤثر على تطبيق مبدأ تقرير المصير وتعبير السكان عن إرادتهم”. كان هذا القرار قابلا للتأويل والتأويل المضاد، فقرر المغرب حسمه ميدانيا عن طريق المسيرة الخضراء.
ويؤكد العروي هذا التحليل بقوله: “لو لم يتحرك المغرب لقال الجميع إنه خسر المعركة ولم يعد له حق في أن يعرقل تطبيق المسطرة الأممية لإنهاء الاستعمار في الإقليم”. (عبد الله العروي، خواطر الصباح، الجزء الثاني)
*الاتفاق مع موريتانيا، بضمانات، وعلى إدارة وادي الذهب بعد خروج الإسبان (حسب محمد عابد الجابري في “الصحراء بين التفريط والإنقاذ”، مواقف، العدد 10).
*إعلان الجزائر أنها ليست ذات مصلحة (علي طعمة، المغرب: تاريخه، حضارته، حقيقته).
*مراسلة وجهتها إسبانيا للأمم المتحدة بأنها “ستسلم إدارة الصحراء إلى أي مطمح شرعي”. (نفس مرجع الجابري)
– السرية والتخطيط اللذيْن سبقا الإعلان عنها:
فكر فيها الملك الحسن الثاني مدة من الزمن، وأعطى بعض الأوامر الكفيلة بإنجاحها (تخزين كمية من المواد الغذائية الكافية لشهر أو شهرية).. وذلك قبل إطلاع ثلاث قيادات عسكرية على المعطيات المتعلقة بتنظيمها (الجنرال أشهبار الكاتب العام لإدارة الدفاع، الجنرال بناني من المكتب الثالث، والكولونيل ماجور الزياتي من المكتب الرابع). فعاهدوه على كتمان السر، وشرعوا في العمل والإعداد للمسيرة. (من كتاب “ذاكرة ملك”).
الحديث هنا عن سياسة دولة، عن تخطيط بأفق استراتيجي، هدفه إنجاز المطلوب تاريخيا.. لا إضاعته قبل أوان الإعلان عنه، تحت ذريعة إشراك الشعب في القرار. فالقرار سيادي، والشعب فيه مشارك بموجب عقد البيعة الذي يربطه بالملك. ولا أدل على ذلك من تجاوب المغاربة مع دعوة الملك.. ولو أريد لعدد المشاركين بالمسيرة أن يكون مضاعَفا لكان كذلك. هذا، ولم يكن المغرب ليثير الاستخبارات الأجنبية، مكائدَها وتربصَها، قبل الإعداد الجيد للمسيرة، وقبل دراسة فرصها ومخاطرها.
– الإعلان عن تنظيمها:
وذلك بخطاب وجهه الملك الحسن الثاني إلى الشعب المغربي، يوم 17 أكتوبر 1975.. ومما جاء في هذا الخطاب: “لم يبق شعبي العزيز إلا شيء واحد، إننا علينا أن نقوم بمسيرة خضراء من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرق المغرب إلى غربه.. علينا شعبي العزيز أن نقوم كرجل واحد بنظام وانتظام لنلتحق بالصحراء ولنصل الرحم مع إخواننا في الصحراء”.
وفي مؤتمر صحفي، يوم 25 نونبر 1975، شرح الملك الحسن الثاني حيثيات نجاح المسيرة.. وكان مما قال: “لقد كان الحق مع المغرب بدون جدال. وكان المغرب ينتظر أن تصدر الأمم المتحدة قرارها. فبعد سنة من النشاطات والمساعي الدولية كان المغرب يسعى أن يتجسد في الواقع والحقيقة ما كان صحيحا في النظرية والقانون، ويوشك مع ذلك أن يغور في رمال الصحراء”.
ثم أضاف: “فإذا كانت الصحراء لن تعود إلينا فنحن سنذهب إليها. وهي تنتظرنا، وها نحن نعود إلى أرضنا بسلام وبعزم، أقوياء بحقنا وبعقلنا وبحججنا”.
– التوافق الذي أنجحها:
كانت المسيرة تطلب التوافق بين المجتمع والدولة، وكذلك كان.. خاصة مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ورغم المسافة التي أخذها هذا الحزب من المسيرة.. بشهادة الجابري أحد أبرز قيادات الحزب آنذاك، إذ قال: “إننا في الاتحاد الاشتراكي لم نكن نرى أنها (المسيرة الخضراء) يمكن ان تقوم مقام جيش التحرير.. وأن ما سيحدث خلال المسيرة أو بعدها ليس معروفا ولا ممكنا توقعه. ولكي يظهر الاتحاد تحفظه إزاء التطورات السياسية والعسكرية التي ستفرض نفسها بعد المسيرة قرر المكتب السياسي عدم الدخول في منافسة مع الأحزاب الأخرى التي قفزت إلى الواجهة بمناسبة المسيرة. ولذلك لم يرسل وفدا حزبيا رسميا بل اكتفى بدعوة مناضليه وجماهيره بالمشاركة الفردية المكثفة في المسيرة”..
قلت: رغم ذلك، إلا أن الاتحاد لعب أدوارا مهمة قبل المسيرة.. فيما يتعلق باقتراح اللجوء إلى محكمة العدل الدولية (اقترحه عبد الرحيم بوعبيد على الملك الحسن الثاني في يونيو 1974).. والمساهمة في توفير القابلية لقرار المسيرة الخضراء (مسيرة أكادير تزامنا مع وصول لجنة تقصي الحقائق إلى المغرب، في 23 ماي 1975).. إقناع الوفد الموريتاني بالوقوف إلى جانب المغرب (عبد الرحيم بوعبيد)، والتعبئة الشعبية للمسيرة. (محمد عابد الجابري، نفس المرجع السابق).
أما حزب الاستقلال، فيكفيه أن زعيمه علال الفاسي توفي مدافعا عن مغربية الصحراء داعيا رئيس رومانيا آنذاك (نيكولاي تشاوشيسكو، 1974) إلى مساندة المغرب في مفاوضاته مع إسبانيا بخصوص القضية.. وذلك قبل حوالي سنة من تنظيم المسيرة الخضراء (حسب ما حكاه امحمد بوستة، في مذكراته بعنوان “امحمد بوستة.. الوطن أولا).
– الخطاب الذي ألهبها:
* التركيز على لحمة الشعب الواحد: إذ جاء في إعلان الملك الحسن الثاني عن المسيرة: “علينا شعبي العزيز أن نقوم كرجل واحد بنظام وانتظام لنلتحق بالصحراء ولنصل الرحم مع إخواننا في الصحراء”. فكان واجبا على المغاربة رفع حاجز الاستعمار بينهم وبين إخوتهم الصحراويين، وكان واجبا عليهم وصل “رحم الشعب” مع مختلف القبائل الصحراوية. لم يعتد المغاربة على أرض ليست لهم، ولم ينفروا لنصرة شعب بعيد عنهم؛ بل هي أرض واحدة، وهو شعب واحد.
دلالة عدد المشاركين بالمسيرة:
إذ قرر المغرب تنفيذ المسيرة الخضراء ب 350 ألف متطوع، “لأن هذا الرقم هو عدد الذين يولدون سنويا بالمغرب”، وقد كان الملك الحسن الثاني “مقتنعا بأن له الحق بأن يدفع بالحصاد السنوي الذي يهبنا الله إياه لكي نعيد إلى الوطن الأب قطعة منا لم تغب عن وجداننا قط” (علي طعمة، نفس المرجع السابق). ولمّا كانت الأرض مغربية، بشعبها وثقافتها وتاريخها، جازت التضحية في سبيلها ب”حصاد سنة” كاملة. لم يتخلّ المغرب عن صحرائه، لم يكتف باستقلال شماله عن جنوبه، وإنما هي ظروف حالت دون التعجيل بتحرير الاستعمار، وهي شروط كانت تنتظر نضجها.
* معركة جيش وشعب:
فعشية المسيرة (5 نونبر)، وفي إطار إذنه بانطلاقها، قال الملك الحسن الثاني: “وفيما إذا اعتدى عليك، إذا تعدى عليك المعتدون، من غير الإسبان، في مسيرتك فاعلم أن جيشك الباسل موجود مستعد لحمايتك، ووقايتك ضد من أراد بك السوء” (إبراهيم دسوقي أباظة، وعادت الصحراء).
وقال في خطاب الإعلان (17 أكتوبر): “فإذا وجدنا غير الإسبانيين، فإن المغرب لن يعترف لا بالسلم ولا بالمسالمة. بل أصبح في حالة استثنائية”.
فهذا شعب يؤدي مسيرته السلمية، وذاك جيش يحميه ويقيه شر المعتدين.
*حضور البعد الديني: في نداء 5 نونبر، خاطب الحسن الثاني المشاركين بالمسيرة قائلا: “بمجرد ما تخترق الحدود، عليك أن تتيمم من الصعيد الطيب ومن تلك الرمال، ثم تستقبل القبلة، وتصلي، بأحذيتك لأنك مجاهد تصلي ركعتين شكرا لله سبحانه وتعالى”. يعبر هذا التوجيه عن حنكة خطابية بالغة لدى الملك الحسن الثاني، استطاع من خلالها الربط بين الأرض والسماء، المسيرة والصلاة، الشعيرة والوطن. فكان التيمم من رمال الصحراء، وكان الإقدام في دخولها واقتحام حواجز الاستعمار على حدودها.
وقد اوجب الملك الحسن الثاني حمل كتاب الله في المسيرة، فقال: “لا يوجد رجل يمكن أن يعطي الأمر لإطلاق النار على 350 ألف نسمة مدنية عزلاء لا شيء في يدها إلا كتاب الله، لأن من الواجب أن نكون مزودين به، وقد هيأنا الخامسات لأن كل واحد سيكون في المسيرة سيكون له مدرس من قبيلته يتشارط معه، وكل واحد أعددنا له الخامسات سواء كان امرأة أو رجلا، لأنه حتى ولو لم يكن على الطهارة الكبرى فسيكون في إمكانه أن يحمل الخامسة” (خطاب 17 أكتوبر). ويستمر هنا ربط الأرض بالسماء، من خلال مواكبة المسيرة ببركة القرآن وأحكام الفقه، فكان ذلك بمثابة وقود لمعركة تاريخية ومسيرة غير مسبوقة في تاريخ المغرب.