تمغربيت:
بقلم الأستاذ القدير: الصديق معنينو
من منا انتبه إلى أن “بنك المغرب” أصدر سنة 2013، ورقة نقدية من فئة مائتي درهم وعليها صورة لمنارة “رأس اسبارتيل” المطلة على مضيق جبل طارق.. هذه المنارة تحتفل هذه السنة بمرور مائة وخمسين سنة على تأسيسها.
منتصف القرن
ذلك أنه في منتصف القرن التاسع عشر، عندما تطورت الأنشطة التجارية وتكاثرت البواخر والسفن أصبح مضيق جبل طارق ممرا استراتيجيا بين المحيط الأطلسي، الذي كان أجدادنا يلقبونه ببحر الظلمات وبين البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات.. غير أن التيارات البحرية والأمواج العاتية وصعوبة الملاحة حولت شواطئ طنجة إلى مقبرة لعدد كبير من السفن التي كانت تصدم بالصخور.. ولعل أكبر حادثة في هذا المجال وقعت سنة 1846م عندما اصطدمت باخرة برازيلية مدرسية تسمى “رونا إيزابيل” ومات كل من كان على ظهرها وعددهم يفوق مائتين وخمسين من الطلبة والبحارة..
اهتمام دولي
توجهت الأنظار إلى المنطقة واقترحت أمريكا إرسال كتيبة عسكرية تستقر في شاطئ طنجة (1849م) لمساعدة البواخر على المرور بسلام بينما تدخل القنصل الفرنسي (1850) باقتراح أن تتولى فرنسا الإشراف على الملاحة في المضيق، لم تكن نوايا أمريكا أو فرنسا أو غيرهما منحصرة في الملاحة في المضيق. والحرص على سلامة البواخر، ولكن الهدف الأساسي هو المراقبة والتجسس على الحركة البحرية المهمة التي كانت تعرفها المنطقة..
قرار السلطان
شعر السلطان محمد بن عبد الرحمان بوجود أطماع تروم السيطرة على شمال المملكة فأمر سنة 1864م بإقامة منارة في “رأس اسبارتيل” وعهد بإعداد تصميمها إلى المهندس الفرنسي “ليونس رينو” مع تنبيهه إلى ضرورة احترام انسجام تصميمه مع التراث المغربي.. قام المهندس بجولة في عدد من المناطق وصمم المنارة على شكل “صومعة” بأضلعها الأربعة وبعلو خمس وعشرين مترا..
خلال قرن ونصف، سايرت المنارة التطورات التكنولوجية، التي عرفتها منارات العالم، إذ كانت في البداية تعتمد على الزيت لتوفير الكهرباء.. وعلى “بوق” أي منبه صوتي، في حال وجود ضباب كثيف.. والمنارة اليوم في مستوى جيد صالحة لزيارتها كتراث ثقافي مغربي.
مائة درجة
ورغم أني زرت طنجة عدة مرات إلا أنه لأول مرة سأصعد إلى قمة المنارة.. تطلب ذلك جهدا وعرقا قبل الإطلالة على ملتقى البحرين، الأطلسي والمتوسطي، حيث تذكرت الآية القرآنية من سورة الرحمن “مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان” (صدق الله العظيم). وبالفعل هنا يلتقي الأطلسي بالمتوسط مما يحدث أمواجا عاتية، نقشت على الساحل مغارات عديدة أشهرها مغارة “هرقل”.
عندما تصعد المائة درجة ودرجة، في شكل لولبي، تلاحظ على الجدران تذكير بأهم المراحل التي عاشتها المنارة منذ التأسيس إلى أن أصبحت تتوفر اليوم على متحف من مستوى رفيع يحكي بالصورة والصوت تاريخ هذه المعلمة التراثية.
كوخ قزديري
على السواحل المغربية ما يقارب أربعين منارة لمساعدة البحرية الدولية على الانتباه إلى المناطق الصخرية وإرشاد الربابنة إلى ضرورة الاحتياط.. ومن بين هذه السلسلة المتواصلة من المنارات لم أزر إلا “منارة رأس اسبارتيل” و “منارة بوجدور”.
ذلك أنه في منتصف سنة 1977م، زرت بوجدور لأول مرة في حياتي.. كانت الظروف صعبة.. فلا طرق ولا أمن ولا مرشد، لذلك غامرت مع فريقي التلفزي لأخذ صور لمدينة بوجدور.. كنت أتصور أنها مدينة قائمة الذات.. عند وصولنا لم نجد إلا منارة وإلى جانبها كوخ قزديري يسكنه حارسا المنارة..
اندهشت لعلوها الذي يزيد بقليل عن خمسين مترا، وقررت الصعود، بل بدأت في ذلك، لكني توقفت لضيق الدرج ودورانه المستمر.. لم أستطع الصعود عبر ما يناهز مئاتي وخمسين درجا واكتفت بأخذ الصور.. وعندما سألت عن بنايات بوجدور اتضح أنه لا وجود لشيء، ولا بناية واحدة، حتى أنه يوم تنصيب أول عامل على بوجدور، تم ذلك في خيمة وسط سكان رُحل جاؤوا لحضور الحفل والعودة إلى قُطعانهم..
اليوم في بوجدور شوارع وبنايات عمومية وخاصة بل في بوجدور اليوم نافورات ماء تنعش الأجواء وتعطي للمدينة جمالا كانت في حاجة إليه.. إنها المعجزة المغربية.