تمغربيت :
عندما انطلقت قناة الجزيرة في الأول من نوفمبر 1996، اعتقد، أو بالأحرى توهم، المتابع العربي أن «شعلة إعلامية» سطعت في سماء الإعلام المرئي.. لتنير العقول في وطن عربي، اعتبره البعض وصورته المنصة الإعلامية على أنه تجمع لكيانات مظلمة وشعوب رازحة تحت ظلم وتجبر الطغاة والمستبدين.
ثم ما فتئ أصحاب “لقناة الجديدة” يكررون على مسامع مشاهديهم أن رسالتهم «النبيلة» تقتصر على نقل المواطن العربي من غياهب الجهل والبلادة ومستنقع الرأي الرسمي الأوحد.. إلى فضاءات أرحب من الحرية في التفكير والتعبير. كما تم تصوير المنصة الإعلامية على أنها نقلة نوعية في الساحة الإعلامية العربية، التي وصفت بالآسنة.. وميلاد جيل جديد من الإعلام العربي يقوم على الحرية وتعددية الآراء.
باختصار فقد تم الترويج «للجزيرة» على أنها نموذج للإعلام العصري والمتطور، والناطق بالعربية، من إنتاج العرب وموجه، بالخصوص، للعرب
هدية قطر
في هذا السياق، حاول، من كان وراء إطلاق قناة «الجزيرة»، تصويرها على أنها هدية قطر إلى العرب.. جاءت لتعلمهم فضائل الحوار المتمدن، وأدبيات الاختلاف في الآراء دون عداوة أو عنف أو خصام.. وتم تقديمها على أنها منبر مستقل ومحايد، دون أجندات أو ارتباطات سياسية أو إيديولوجية أو مالية كيفما كانت، فقط هكذا.. شمس للحرية سطعت فجأة على الوطن العربي ستنير العقول وتحرر الألسن.. وتقرب الناس من شؤون بلادهم بنزاهة وتجرد وحياد، حتى يصير الحاكم، بإعلامه الرسمي، شفافا أمام المحكوم العارف، فتستقيم أمور الناس وتزدهر البلدان ويسعد القوم والأقوام.
الجزيرة.. قصة تأسيس إعلام الإرهاب والانفصال
ويمكن القول إن القائمين على فكرة إطلاق قناة الجزيرة نجحوا في زرع هذا الاعتقاد المليء بالآمال، نتيجة الإعداد الجيد والمتأني لمشروعهم. حيث استغل أمير قطر “المنقلب” إغلاق القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي سنة 1996م.. وتسريح أزيد من مئة صحافي عربي، كانوا قد جمعوا، بسبب أصولهم العربية وسنوات عملهم الطويلة بالغرب.. ما بين المعرفة الواسعة بواقع الشعوب العربية وإشكالاتها، وبين التكوين الصحافي المهني الصارم.. والمتشبع بالتقاليد العريقة لهيئة الإذاعة البريطانية.
هذا الجيش من الصحافيين المُسرحين كان على رأسهم السوري فيصل القاسم والأردنيين سامي حداد وجميل عازر والتونسي محمد كريشان.. تم استقبالهم من طرف النظام القطري الجديد، الذي مدهم بتمويل لا محدود (جرى الحديث عن مبلغ مالي فاق آنذاك 150 مليون دولار، خصصه أمير قطر آنذاك حمد بن خليفة آل ثاني لإطلاق قناة الجزيرة)، وكلفهم بالعمل على استقطاب أحدث المعدات التقنية واللوجستية، وإنجاز تحاليل مُحيّنَة للبنية الفكرية والذهنية والنفسية للمواطن العربي، ودراسة أنماط تفكيره وعيشه، حتى تتمكن الجزيرة، كأداة بيد صانع القرار القطري، من تطويع وتوجيه الرأي العام العربي بعد الناجح في اجتذابه واحتوائه.. (يتبع)