تمغربيت:
يحتاج التحديث إلى إدارة دولة قادرة، إدارة تميز بين مطلوبين: علمي وإيديولوجي، “إدارة توظف الطوبى وتعلم أنها كذلك”، تفرض الضبط والضغط والسيطرة عن طريق “العقلنة”.
يختار العروي تجربة نابوليون بونابارت، في فرنسا (بعد ثورة 1789)، للتمثيل على الكيفية التي يتم بها تحديث دولة ما. يشمل التحديث النابوليوني:
– الجيش:
تم هذا التحديث من خلال عقلنة الجيش، بتدريبه على مزيد من الانضباط والتلاحم السياسي والإيديولوجي. فيصبح وطنيا شعبيا ديمقراطيا منضبطا عقلانيا. تتجلى وطنية الجيش في إذكاء الشعور الوطني بين الجنود، وشعبيته في تجنيد الشعب بدرجة أولى، وديمقراطيته في فك احتكار الأرستقراطية للمناصب العليا، وانضباطه في تفهم الأوامر (كيف لا تتفهم الأوامر وهي وطنية شعبية ديمقراطية؟)، وعقلانيته في تدريب الجنود على الانضباط المتعقل. هنا يتكتل الجيش في إطار عصبية جديدة، عصبية تنطلق من الوطنية وتؤدي إلى العقلانية. يعلق العروي في الهامش: “هذه عصبية من نوع جديد، سياسية أدلوجية، مختلفة عن عصبية ابن خلدون القبلية والدينية”. (ص 65)
قد يتساءل بعضهم: لماذا حقق جيش نابليون انتصارات كثيرة في بداياته؟ يجيب كلاوسفيتس (محارب شاهد على انتصار جيش نابليون على الجيش البروسي في 1805، وكذا انهزامه أمام الجيش الروسي في 1812): “السبب هو ربط مفهوم الجيش الحديث بمفهوم العقلانية”. وقد يتساءل آخرون: لماذا انهزم جيش نابليون بالرغم من عقلانيته أمام الجيش الروسي؟ يعتقد هؤلاء أن باقي الجيوش الأوروبية بقيت على حالها “ما قبل حداثية”. والحقيقة أن اتخاذ باقي الجيوش الأوروبية خيار التحديث، كان من شأنه أن يقلب الكفة ويغير موازين الحرب. (ص 66)
– القانون:
تم تحديث القانون من خلال: التوحيد، والتحديد، والتعميم. “توحيد الحياة العامة”، بخضوعها لقانون واحد. تحديد هذا القانون، ب”بسط القواعد التنظيمية” وإطلاع المواطنين عليها. تعميم القانون، ب”تطبيقه على جميع المواطنين” بدون أدنى تمييز بينهم. افتتح نابليون تحديث الإدارة بتحديث القانون، الأمر الذي لم يكن حاصلا آنذاك في كل من: اسبانيا، وألمانيا، وانجلترا. يقول عبد الله العروي: “الدليل الأوضح على الثورة الإدارية هو “القانون النابليوني” الذي جمع في كتاب واحد موجز كل القوانين الواجب تطبيقها على جميع المواطنين بدون ميز جغرافي، عرقي أو طبقي”.(ص 66)
– الإدارة:
كما تم تحديث الجيش، تم تحديث الإدارة. يشكل الجنود جيشا عسكريا، فيما يشكل الموظفون جيشا مدنيا. الجنود والموظفون مطالبون جميعا بالانضباط وتطبيق الأوامر. ولا يتأتي ذلك إلا باختيار العاملين في الإدارة حسب نظام المباراة، تحديد الراتب الذي يتقاضاه كل موظف، التكليف بالتعيين حسب الظروف والأحوال وليس حسب الأشخاص أو القرابات، استقلال طبقة الإداريين عن صاحب السلطة بالموازاة مع نموها وتوسعها، وتطبيق الأوامر حسب مسطرة معلومة في ظروف معينة وليس حسب أهواء أحد. (ص 66)
تطلب البيروقراطية موظفين منضبطين يعملون كالجيش (الجيش هنا مدني) (ص 66-67)، فيقوم كل شيء على العقلنة: التوظيف، والأمر، والتنفيذ. يقول ماكس فيبر: “إن البيروقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحويل العمل الجماعي إلى عمل اجتماعي معقول ومنظم… إنها تشجع طريقة عقلانية في الحياة، علما بأن مفهوم العقلانية يحتمل معاني جد متباينة”. (ص 68)
يقول العروي إن “البيروقراطية استوعبت منطق هيجل”، وذلك في إطار ما أسماه هيجل: “الإعقال”. ويقوم “الإعقال” على: “تجزيء أي كيان إلى وحدات مستقلة”، “تطبيق قواعد الجمع والطرح على تلك الوحدات المستقلة”، “الاهتمام بالكم دون الكيف”. (ص 68)
تهتم البيروقراطية بالمردودية والربح والإنجاز، أو لنقل: إن بيروقراطية نابليون وهيجل لا إنسانية، عبر عنها العروي بقوله: “لا يعني البيروقراطي أن يكون المواطن غنيا أو فقيرا، شريفا أو عاميا، صحيحا أو مريضا”، كل ما يعنيها أن “يخضع الرجل خضوعا كليا للإعقال (التجزيء، الجمع والطرح، الكم)”. (ص 68)
– الاقتصاد:
كانت عقلنة الاقتصاد سابقة على عقلنة الجيش والإدارة. لم يعد العمل يستهدف الاستهلاك، وإنما أخذ يستهدف الإنتاج، وبالتالي مضاعفة الإنتاج، فاتخِذت العقلنة وسيلة من وسائل مضاعفة الإنتاج. يقول العروي: “كل وحدة من هذه الوحدات (يقصد العروي هنا: ضيعات الكنيسة والإقطاع في القرون الوسطى، والشركات التجارية لجلب المصالح، ومعامل النسيج والخزف) كانت تملك دستورا تطبقه إدارتها بمثابرة وانضباط لتحقيق هدف واحد هو رفع الإنتاج”. (ص 69)
كانت الرغبة في مضاعفة الإنتاج، أي في تحقيق الربح، تطلب عقلنة الاقتصاد. ففهم نابليون أن تحديث هذا الأخير لا يتم إلا بعقلنته، أي بوضع الإشراف عليه في يد جيش مدني منضبط يضاعف الإنتاجية.
– التعليم:
حيث تم تنظيم التعليم الثانوي والعالي، تأسيس الباكالوريا، إنشاء المعاهد والمدارس العليا، تحرير التعليم من قبضة الكنيسة، توجيه التعليم وجهة تقنية، إلخ. (ص 69-70)
ويمكن تلخيص أهداف السياسة التعليمية التي نهجها نابليون في:
أولا؛ التعليم في خدمة الدولة:
إذ تم ربط التعليم بالجيش والإدارة والاقتصاد، وبالتالي تزويد مؤسسات الدولة بالمهندسين والحقوقيين والمحاسبين والعمال والمدرسين. (ص 70)
ثانيا؛ التعليم في خدمة الوحدة:
حيث يتم توحيد لغة التدريس والمواد المدروسة، وذلك بهدف تقوية التلاحم القومي والفعالية (الجيش والإدارة) والتنمية (الاقتصاد)، ومن ثم إنشاء سوق وطنية قوية. (ص 70)
ثالثا؛ التعليم في خدمة التقنية والمجالات التطبيقية:
وهنا تم الاهتمام بالمعارف القابلة للتطبيق، والاهتمام بالرياضيات والفيزياء على حساب الإنسانيات.
**
تمكن نابليون من توحيد الدولة وتنمية اقتصادها القومي بالتركيز على علوم تحقق هدفه، فساهم من حيث لا يدري في ظهور مدرسة وضعانية تأسست على أنقاض العلوم الإنسانية والاجتماعية في فرنسا. (ص 70-71)
ليس التحديث نظرا منفصلا عن العمل، بل يجمع بينهما معا. فكر في ذهن، ويد في عمل. يعكس التحديث شروطا اجتماعية وسياسية، حاجة كامنة أو واعية إليه. لم يكن نابليون فردا معزولا في صحراء قاحلة، بل كان رمزا لتحول أعمق، انتقال فرنسا من وجود اجتماعي متهالك إلى وجود جديد يحمل في أحشائه نظاما اجتماعيا جديدا. من يمني النفس بتحديث متوهم، عليه أن يقرأ تجربة نابليون.