تمغربيت:
محمد الزاوي*
إن العالمية في سياق وطني لا تعني إذابة الوطن في العالم، وإلا لما بقي للعالم نفسِه معنى، فما العالم إلا مجموع أوطان.
وإن القومية العربية في سياق وطني لا تعني صهر قضايا الوطن في قضايا العروبة، وإلا لما بقي للتاريخ والجغرافيا وجود ولا اعتبار.
وإن أممية الإسلام في ذات السياق لا تعني ازدراء الأوطان (مع تقية تمارَس عند كثيرين)، وإلا لما كان الإسلام أصلا.
هي فِرق معاصرة إذن، عوض أن تصهر مرجعياتها في مرجعيتها الأصل “الوطنية”، جعلتها على النقيض منها، أي على النقيض من قضايا الوطن والمصالح العليا للدولة المغربية. تبدو هذه الفرق هامدة لفترات من الزمن، تتحرك بين الفينة والأخرى في القضايا الوطنية التي عليها إجماع (كقضية الصحراء المغربية)، إلا أن “عورتها تنكشف” بمجرد أن تتعارض مرجعياتها مع سياسةٍ ما في تدبير قضية وطنيةٍ ما.
فنرى أناسا إنسانيين أكثر مما هم مغاربة، قوميين أكثر مما هم مغاربة، إسلاميين أكثر مما هم مغاربة؛ هم درجات في ارتباطهم بالوطن، إلا أنهم يشتركون في الاستلاب عنه بمرجعياتهم. وبقدر ما تكون مرجعياتهم على النقيض من مصالح وطنهم، بقدر ما تخدم مصلحة أوطان أخرى. هذا ما يجهلونه، فيسقطون في شراك أجندات أجنبية عن وعي أو عن غير وعي.
يَغضب هؤلاء كلما جُرِحوا في “وطنيتهم”، ويردون قائلين: “نحن نحب الوطن”. ولا ضير أن يختزل المواطن البسيط الوطنية في “حب الوطن”، عاطفة جياشة لا استغناء عنها في الشدائد. إلا أن أصحاب المرجعيات الثلاث -المذكورة أعلاه- يختزلون الوطنية في العاطفة، ليتخلصوا منها بسهولة عند التعارض بين إيديولوجياتهم وما يقتضيه الوعي الوطني السديد.
هذا ما وقع بالضبط، العام الماضي، عندما قررت الدولة المغربية “استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل”. كان هذا القرار بمثابة مختبر لقياس منسوب الوعي الوطني لدى كثير من الإنسانيين والقوميين والإسلاميين المغاربة، فكانت النتيجة مخيبة للآمال بحق. أصبحوا فلسطينيين أكثر مما هم مغاربة، يدافعون عن فلسطين أكثر مما يدافعون عن المغرب. وتحت شعار “التطبيع ليس حلا لمشكل الصحراء المغربية”، والشعر الذي لا يعكس إلا فقر وعي أصحابه، أنتجوا فائضا من الكلام، والكلام على الكلام.
لا أحد منهم طرح السؤال الجوهري في القضية كلها: لماذا اضطر المغرب لاتخاذ قرار “استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل”؟
لا أحد منهم اهتم بشكليات الاستقبال (المقصود: استقبال كوشنير وبنشبات) وحيثياته التفصيلية…
لا أحد منهم تساءل عن التحولات العالمية التي جاء القرار المغربي في سياقها…
لا أحد منهم تساءل عن التحولات التي عرفتها “إسرائيل” من عام 1948 إلى اليوم…
لا أحد منهم بحث في موضوع “أمريكا الجديدة” والموقف الجديد للرأسمال المالي الأمريكي من “إسرائيل”…
لا أحد منهم حاول تفسير الخط العربي الجديد: مصر/ المغرب/ الإمارات/ الأردن…الخ؛ هذا الخط الذي بدأ يتشكل شيئا فشيئا معبرا عن واقع عربي جديد.
… إلى غير ذلك من الإشكاليات التي لم تتكبد عناء الإجابة عنها قيادات المرجعيات الثلاث، فضلا عن قواعدها.
وهكذا، فإن الذي يفتقر إلى الوعي الوطني السديد، يفتقر بالمثل إلى الوعي السديد في كل شيء. جهله المركب بالوطن هو ما أنتج جهله المركب بالقضايا الأخرى، ومنها قضية فلسطين. الوطن جغرافيا وتاريخ وذهنية وسياسة واقتصاد وثقافة، إنتاج مادي ومعنوي. والوعي السديد به لن يتحقق إلا بالوعي السديد بكل تلك العناصر، مرتبة أولا بأول، مترابطة فيما بينها ككل لا يُستوعَب إلا بأجزائه كلها، متغيرة في التاريخ كما وكيفا على اختلاف وتائر تغيرها… إلخ.
على أساس الوعي السديد بكل ما ذكر، وعلى الشكل الذي ذكر باختصار، تتحدد إشكالية المناضل الوطني. وبالتالي، فشتان بين من حدد إشكاليته في “كيف السبيل إلى الحفاظ على المصالح العليا للدولة المغربية في ظل المتغيرات الراهنة؟” وبين من حددها في “كيف السبيل لنصرة الإسلام”؟ وشتان بين الأول وبين آخر حدد إشكاليته في “كيف السبيل لنصرة العرب”؟ وبينه (صاحب الإشكالية الأولى) وبين من حدد إشكالية في “كيف السبيل لنصرة الإنسان”؟ وكل تلك الإشكاليات مشروعة، إلا أنها عامة فضفاضة مُغرقة في الميتافيزيقية، لا تأخذ معناها السديد إلا في الوطن وفي إشكالية وطنية، بل ولا تتحقق إلا بهما.
القوميون العروبيون قلة، وهم إلى الاقتناع بالخطاب أعلاه أقرب. إلا أن ما يخترق مجتمعنا حقا، ويقف في وجه الخطاب الوطني السديد والمطلوب، هو امتدادان دخيلان: “إسلاميون لا وطنيون” و”إنسانيون لا وطنيون”.