تمغربيت:
بقلم الأستاذ: أحمد الدافري
في بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان رجل في حوالي السبعين من عمره.. يقيم في دوار اسمه تاناقوب، تابع لعمالة إقليم شفشاون. وكان والدي وقتئذ يشتغل موظفا يحرس الغابات، مكلفا بمراقبة القنص والحفاظ على الملك الغابوي.. وكان يقيم في بيت وظيفي في ذاك الدوار المسمى تاناقوب.. وكنت أذهب عنده في العطل المدرسية، أنا وإخوتي، وأحيانا وحدي.
عمي عبد السلام
الرجل كان اسمه عبد السلام، وكان يسكن في بيت محاط بالأشجار المثمرة، أسفل طريق يوجد فيه مسجد كان إمامه.. هو والد الأستاذ الجامعي الناقد عبد الحميد عقار الرئيس الأسبق لاتحاد كتاب المغرب.
كنا نسمي الرجل سي عبد السلام. وكان له أبناء وبنات، منهم من كان متزوجا ومنهم من كان مايزال أعزب.. وكنت صديقا لأحد أبنائه العزاب الذي كان يدرس معي في مستوى الباك بثانوية محمد بن عبد الله بشعبة العلوم الرياضية، حيث كنا نقيم معا في القسم الداخلي.
كان سي عبد السلام يجلس فوق كرسي قرب بئر بجوار بيته، تحت شجرة كرموص.. وأمامه مائدة خشبية قديمة فوقها مذياع ترانزستور، وأدوات تحضير الشاي، وبراد صغير كلما فرغ من محتواه قام بإعداده من جديد.
جلسات سي عبد السلام الهادئة تحت شجرة الكرموص، كانت مرتبطة بتدخينه الكيف في سبسي طويل.. حيث كان كلما أسقط الكيف المحروق من داخل الشقف المثبت في رأس السبسي بنفخة قوية تجعل السقطة ترتمي بعيدا فوق الأرض.. إلا ومد يده مرة أخرى نحو المطوي الجلدي الممتلئ بمسحوق الكيف.. وقام بتعبئة الشقف بالمسحوق المدرح بالطابا مرة أخرى، وهكذا دواليك.
كان سي عبد السلام حريصا على أن يُكثر من قطع سكر القالب في الشاي، بحيث يصبح مذاقه حلوا جدا، ويقف في الحنجرة.
ضحية عمي عبد السلام
جالست سي عبد السلام في أحد أيام الصيف، فاستنشقت الكثير من دخان الكيف.. ومما زاد في تعقيد الوضع، أنني كنت أقطع الدخان بكؤوس الشاي الحلو.. إلى أن تطرننت، وبدأت أسمع الهدير يخرج من أذني.
قال لي سي عبد السلام حين لاحظ أن عينيّ قد احمرتا، وأنني بدأت أنظر إليه وأنا مبجقل :
ياك ما كنآذيك بالدخان؟
كانت تلك هي آخر عبارة سمعتها في تلك الجلسة.. وبعدها لم أعد أعي بما يحدث حولي.
ما أتذكره بعد ذلك، هو أنني استيقظت في الصباح.. فوجدت نفسي فوق الفراش، في الغرفة التي كنت أنام داخلها في بيت والدي، وأنا بنفس الملابس التي كنت أرتديها أمس..
هي لحظة من حياتي مت فيها، ثم بعدها حييت.
من أنهضني من مكاني الذي كنت جالسا فيه؟
ومن ساعدني على الوقوف؟
من أخذ بيدي إلى أن صعدت إلى الطريق وتابعت خطواتي نحو البيت؟
ومن أدخلني إلى البيت؟
من أدخلني إلى غرفة نومي؟
هل لاحظ والدي شيئا؟
هل تحدث معي أحد حين وصلت إلى البيت؟
لا أعرف.
إنه الكيف..
وهو عشبة لا توقظ داخل النفس الشرور، ولا تدفع المرء إلى ارتكاب أي عنف.
بل تجعل الدماغ يدور،
فتنتشل الفقراء من براريكهم وتسكنهم في القصور،
وتترك أذهانهم في حالة شرود،
لا يميزون بين الآدميين وبين القرود،
ويصبحون مُتعبين مُنهكين مهدودين،
غير قادرين على بذل أي مجهود.
لذلك، ينبغي التمييز بينه وبين أنواع أخرى من الموبقات،
مثل القرقوبي،
أو الغبرة البيضا والبوفا وما شابهها،
التي تتسرب إلينا في هذه البلاد،
فتجعل مدمنيها يقتلون العباد،
وإن دفعت أحدا إلى ارتكاب جرم،
وإلى قتل الناس عن جور وظُلم،
صاح البعض آويلي ما يديرهاش،
علاش تتعداو عليه وتضربوه بالنار،
راه كان ولد زوين الله يعمرها دار.
وهذا ما كان.