تمغربيت:
البيعة.. رباط وارتباط
يرتبط المغاربة بسلاطينهم ارتباطا خاصا لم يطوِه الزمن، بل عززه وما زال. وإنّ دارِس تاريخ العلويين لَيجد دليلا على ذلك، فما إن كان يقضي أحد سلاطينهم نحبَه إلا وكان المغاربة يهرعون إلى أحد إخوته أو أبنائه ليبايعوه فيحل محلّه (في “الاستقصا” للناصري تجد هذا الأمر مفصلا).
وما كانوا يختارون سلاطينهم من غير الأسرة العلوية، بل منها ومن أقرب أقارب السلطان فيها.. وكان ذلك شبيها بحركة بيعة يقودها خاصةُ الناس وعامتهم، فقهاءَ وأشرافًا وشيوخَ زوايا وقبائل يُجمعون على مصلحة الأمة طوعا من غير إجبار، لا يسيطر عليهم السلطان بتقسيمهم وتفكيك أواصرهم وخلق الفتن بينهم (كما تقول “النظرية الإنقسامية”، جون واتربوري، أمير المؤمنين والنخبة السياسية بالمغرب).. بل هم يلجؤون إليه ليحكمهم ويمارس التحكيم بينهم (“نظرية التحكيم”، جرمان عياش، دراسات في التاريخ المغربي).
بيعة أهل الحل والعقد ثم بيعة القبائل والرعية
وبعد البيعة المركزية، كانت تتوالى البيعات لأيام تحملها القبائل والزوايا أمانات على عاتقها، بعد زيارة السلطان الجديد وإبداء الولاء والطاعة له على النصرة في المنشط والمكره.. وعلى الالتزام بما تقتضيه وحدة الأمة من واجبات مادية (الأموال والدفاع) ومعنوية (الالتزام بالثوابت الدينية والخضوع لأمر السلطان).
أما من شذ عن جماعة الأمة، من القبائل ورجالها، فإن الأمرَ عليه شرعٌ، يفتي به الفقهاء، ويدعو له بالتوفيق الأشراف وشيوخ الزوايا.. وتساهم فيه بالجند والعتاد القبائل، ويأمر بتنفيذه السلطان؛ والغاية أن تستمر الأمة المغربية وتستقر لا أن تعود القهقرى قبل أن تتسع دولتها لتبلغ من الشرق والشمال والجنوب مبلغها، بل قبل أن تتأسس دولتها على يد الأدارسة.
وما كانت “الحماية”، الاستعمار الفرنسي المرير والغاصب، لتفصل بين السلطان والرعية.. بين الدولة والشعب، بالقدر الذي تفقد معه هذه العلاقة قدرتها على الانتفاض من جديد. فما هي إلا أعوام حتى ثارت ثائرة “ثورة الملك والشعب”، فأبلى المغاربة البلاء الحسن في الدفاع عن ملكهم وأرضهم، فجاء الاستقلال وسادت البيعة من جديد.. لتصبح دستورا للمغاربة منذ 1962 إلى اليوم (دستور 2011). (أكد عبد الله العروي على صمود مؤسسة “المخزن” طيلة فترة الحماية، بل ودورها الأساسي في انطلاق وعمل الحركة الوطنية، في كتابه “استبانة”)
البيعة شرعية دينية أكبر من كونها دوستورانية غربية
وعلى الذين يناقشون البيعة بمرجعية دستورانية غربية أن يراجعوا أوراقهم مليا؛ فليست هي الخاضعة لتك المرجعية في سياقها المغربي، بل هي أساسها ومركزها السياسي. إنها بمثابة “عمود فقري” للحياة العامة المغربية، لا معنى للمرجعية الدستورية إلا بها، بل بمركزيتها وشرعية تدخلها لمصلحة الأمة. (قريبا من هذا المعنى حاول محمد المعتصم إبرازه في كتابه “النظام السياسي الدستوري المغربي”)
أما في شروطنا الخاصة، حيث تخوض الأمة المغربية معاركها على أكثر من جبهة، وحيث تحتاج سياسات داخلية إلى ترتيب حاسم لعدد من السياسات الخارجية.. وحيث تتجه كافة دول العالم إلى مركزة حكمها وقرارها السياسي في عالم متقلب؛ في هذه الشروط يكون إخضاع “العلاقة بين الحكم والشعب” للنقاش الدستوراني (أي بإيديولوجيا دستورانية) افتقارا للحكمة.. بل وعيبا كبيرا في الوعي السياسي بالخصوصية المغربية، حيث تعبر الدستورانية المغربية عن امتداد لهذه الخصوصية لا العكس.