تمغربيت:
قلق وفزع
إن النبش في الأسباب الحقيقية التي جعلت القيادة القطرية تفكر في مشروع إطلاق قناة مثل «الجزيرة».. يحيلنا على حالة القلق وربما الفزع، غير المبرر، التي تملكت رئيس قطر السابق.. والذي وجد نفسه على رأس دولة ضعيفة ومغمورة مثل قطر، تسبح في محيط جيو-سياسي مضطرب، يعرف اهتزازا في المفاهيم الإيديولوجية للدولة-الأمة، مقابل تصاعد الإيديولوجيات العابرة للحدود.
“ادعاء” الدفاع عن القضايا القومية
من أجل ذلك، سيعمل الأمير الجديد على تبني مشروع إنشاء قناة تكون، هي أيضا، عابرة للحدود.. وناطقة بالعربية وموجهة للمشاهد العربي الذي يسمع بوجود قنوات أجنبية عصرية لكن تعوزه اللغة الضرورية لمتابعتها.
إن الهدف السياسي، كمحدد استراتيجي لكل دولة، دفع بقطر إلى إنشاء منبر إعلامي عابر للحدود، يسعى لتقوية شرعية النظام القطري واستقطاب دعم وتعاطف المواطن العربي أينما كان، عبر «ادعاء» تبني الدفاع عن قضايا قومية هي محط إجماع ودعم الشعوب العربية والإسلامية، مثل القضية الفلسطينية، وظاهرة الأقليات المسلمة.
غير أن الأهداف “غير المعلنة”، كانت تروم، بالأساس، الدفاع وتبني المواقف السياسية لقطر ولأميرها الطامع في زعامة العالم العربي وفي إنشاء دولة تحاكي «جنيف» بالشرق الأوسط.. حيث تحل الخلافات بين المتخاصمين ويعبر عن المواقف بكل حرية، ولم يكن له من سبيل لبلوغ هذا الهدف غير استخدام قواه الناعمة (GREGG CARLSTROM, What›s the Problem With Al Jazeera?)، ما دامت دويلته الصغيرة لا تمتلك غيرها.
لقد نجحت «الجزيرة»، بعد إطلاقها بشهور قليلة، أن تبهر المشاهد العربي المتعطش للخبر والجمال والقيل والقال، من خلال الاعتماد على أحدث البنى والتجهيزات العصرية والحديثة والباهظة الثمن.. التي استعانت بها «الجزيرة» في النقل والبث التلفزيونيين. كما نجحت في الإبهار أيضا باعتمادها على عصبة من الصحافيين والصحفيات من ذوي المواصفات الخاصة، وكذا تبنيها لأسلوب جريء في الإخبار وفي تقديم البرامج الحوارية والتحقيقات الصحافية.
ثلاثة محاور رئيسية
على هذا المستوى، يمكن أن نتذكر برامج فرجوية تحت غطاء تنويري تثقيفي، مثل برنامج «سري للغاية»، الذي كان يقدمه الصحافي يسري فودة، وخاصة برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي اشتهر به الصحافي السوري فيصل القاسم، عندما كان يلوح، هذا الأخير، بيده الحاملة لأفخم أنواع الساعات ويتلاعب.. على الهواء مباشرة، وفي غفلة منهما، بضيفين متحمسين حد العته، أحدهما صديق الدكتور يتم تقديمه دائما كممثل للخير، والضيف الآخر يقدم نصيرا للأنظمة ولكل الشرور، في تصور تبسيطي لثنائيات «الخير/ الشر»، «الحرية/ القمع»، في قالب يحاكي حد التطابق طقوس صراع الديكة التي اشتهرت بها مدينة بالي الإندونيسية.
وبغرض التميز أكثر، وسط المشهد الإعلامي العربي، أحدثت القناة قطيعة تامة مع الممارسات الإعلامية المعتادة آنذاك. هذه القطيعة مست، بالأساس، ثلاثة محاور رئيسية: مكان البث، معايير اختيار المنتسبين للجيش الصحافي، وأخيرا المرجعية الإيديولوجية المُعتمدة.
فيما يخص المعطى المكاني، تم اختيار البث من قطر، كبلد عربي لقناة عربية تتمتع، ظاهريا، بهامش موسع من الحرية، وهو ما اعتُبر، آنذاك، سابقة وانفرادا حصريا في المنطقة، وهو المعطى الذي سيلعب دورا فعالا في تلميع صورة الدويلة المغمورة وإيصال صوتها للشعوب العربية.. وإلا فمن كان يسمع بقطر قبل “الجزيرة”. وكما قالت الباحثة منصورية المخفي في عدد خاص حول «الجزيرة» نشره المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية بعنوان «Aljazeera au Maghreb : De la différence à l’indifférence»: «البروز الدولي لقطر مرتبط، بدون شك، بإطلاق قناة الجزيرة سنة 1996».
هكذا إذن ركزت «الجزيرة» كل جهودها لتقديم قطر كدولة ديمقراطية وتقدمية في مناخ إقليمي تعتبره جامدا. دولة ليس لها وزارة للإعلام، تحتضن قناة تلفزيونية عصرية، تتمتع بهامش كبير من الحرية بالمقارنة مع القنوات الوطنية الأخرى، والتي ظلت، إلى وقت قريب.. مترددة في إثارة المواضيع الشائكة والحساسة سياسيا واجتماعيا ودينيا. أضف إلى هذه المعطيات، والتي زادت من توهج قناة «الجزيرة» عند إطلاقها آنذاك، أنها ذهبت حتى أبعد من القنوات التي كانت تبث بالعربية من بريطانيا.. على اعتبار أن القنوات «الحرة» الأخرى الناطقة بالعربية كلها كانت تبث من لندن، فيما يتعلق بمعالجة مجموعة من المواضيع الحساسة سياسيا وثقافيا.